أذكر أنّ أوّل نصيحة وُجِّهت لي بعد شروعي في نشر كتابي الأوّل، تمحورت حول النقد الذي سيطال الكتّاب، وربّما يتخطّاه ليطال قلمي أو حتّى يطالني شخصيًّا؛ يومها همس صديقي في أذني قائلًا، إنّني طالما قرّرت إظهار أفكاري وبثّها على الملأ، فعليَّ تقبُّل كلّ ما سيقال عنها، وعدم مناصبة أصحابها العداء، أو حتّى اتّخاذها ذريعة لمحبّتهم. وأوصاني بالتعامل مع كلّ الأقوال والأفعال - ما كان منها مدحًا أو قدحًا - على أنّها مجرّد أفعال سلوكيّة تعبّر عن ذوات أصحابها وآراء تخصّهم وحدهم، وليس بالضرورة أن تكون صائبة أو خاطئة. واستثنى من ذلك كلّه ما يوقفني على خطأ صريح لا جدال حوله، إذ ينبغي عندها الإقرار به والتراجع عنه، أو تصويبه متى سنحت الفرصة، أو تلافيه في كتاباتي مستقبلًا. وكان الرجل محقًّا بالفعل في كلّ ما قاله، فالأفعال البشريّة محلّ انتقادٍ دائم، فكما يقال: إنّ الانتقاد أسهل بكثير من العمل، ويكون غالبًا متنفَّسًا يتّخذه البعض وسيلةً لجَسْر الهوّة بينه وبين الآخرين، يُرضي من خلاله نفسه عندما يوهمها أنّ السكون والراحة خيارٌ جيّد، بذريعة أنّ كلّ من يتصدّرون المشهد إنّما هم أناسٌ قرّروا نشر غسيلهم أمام الملأ، وفضْح ما سُتر من أقوال وأفعال. ويأخذ في بيان ما يعتقد أنّه خطأ، معتمدًا على خبرته البسيطة وسطحيّته في التعامل مع معظم الأحداث والمستجدّات. ويكون همّه في ذلك معالجة الدونيّة التي يشعر بها أحيانًا، وقد يكون النقد من باب قناعتنا المرضيّة ببعض الأفكار والتوجّهات التي نعتنقها ونتصدّى لمن يخالفها. وهو ما كان سببًا في انصراف البشر، على مرّ التاريخ، عن الأنبياء والمصلحين، لا لشيء سوى مخالفتهم لقناعاتهم المجتمعيّة، رغم بطلانها عقليًّا وخطئها الجسيم، كما ورد تفصيل ذلك في القرآن الكريم، قال تعالى: (وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَومِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنْكَرَ فَمَا كان جَوَابَ قَومِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِين) (سورة العنكبوت الآيات 28، 29). وكما يظهر من سياق هذه الآيات، إنّهم اتّهموه بالكذب وانصرفوا عنه، بل وتحدّوه أن يأتي بعذاب الله، رغم وضوح خطئهم وخروجهم عن الفطرة السويّة التي خلق الله البشر عليها. وكان هذا ديدن أغلب البشر في إنكارهم للحقّ، وانجرافهم خلف شهواتهم، وتخطئتهم كلّ من يختلف معهم، قال تعالى: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ) (سورة الأنعام الآية 116). وكما يظهر من هذه الآية، إنّ البشر غالبًا ما تحيد آراءُهم عن الصواب، لأنّهم يتبعون قناعات شخصيّة، الأصل فيها خضوعها لعوامل متعدّدة تُفقدها قيمتها، كأن تكون خاضعة لسياسات وآراء وأفكار وقناعات القطيع بدون تفحُّص، وهذا يحدث بنسبة كبيرة مع كلّ شرائح المجتمع، لا يسلم منها حتّى المتنوّرون والمتعلّمون؛ فهيمنة الآراء الجمعيّة وسطوتها وقدرتها على إقناع البشر بالسير خلفها، تفوق الوصف، بدليل أنّ بعض البروفسورات والأكاديميّين يعبدون البقر ويتمرّغون في أوحالها، أو يتوقّعون من أصنام لا تملك لنفسها شيئًا أن تضرّهم أو تنفعهم. وقد يكون ولاءُهم وبراءتُهم تبعًا لذلك. وهؤلاء لا يحتكمون للعقل نهائيًّا، وقد يطالنا منهم نقد يوصلنا إلى أنّنا مجرمون، وقد يستحلّون دماءَنا. وهو ما نصّت عليه الآية؛ فأغلب البشر يجمعهم الخطأ وليس الصواب. وبخلاف الانضواء تحت لواء الآراء الجمعيّة وعدم عرضها على العقل والمنطق، نجد أنّ شريحةً كبيرة من البشر ترهن آراءَها لمشاعرها، فتقرِّر امتداح أعمال الآخرين أو سبّها والنيل منها، حسب علاقتها الشخصيّة بأصحابها. فكما يطمس الكره أعيننا عن رؤية الحقّ واتّباعه، فإنّ المحبّة أيضًا لها التأثير ذاته، كما أخبرنا الشافعي في بيته العظيم الذي جسّدَ هذه الحالة وبصّرنا بها مبكِّرًا، في قوله: وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا وهناك من لا تسعفه قدراته العقليّة ومحتواه العلميّ أو الثقافيّ أو الفكريّ للتبصُّر بالحقّ، فيقلِّل من قيمة أعمال لا يدرك قيمتها، فهو رغم نزاهته وابتعاده عن شخصنة آرائه إلّا أنّه يفتقر إلى مقوّمات الرأي السديد؛ ولو توقّف لكان خيرًا له، لكنّه غالبًا لا يتوقّف، ويدلي بدلوه مع الآخرين - كما أسلفنا - ومنهم من يمتلك القدرة على الفهم، ويعَدُّ منصفًا في آرائه، لكنّه لا ينسجم مع بعض الأعمال لكونها إبداعيّة تتجاوز المعطيات الآنيّة، ولا تحيط بها القدرات العاديّة عند البعض، رغم تمكُّنهم وعدلهم، فيتصادمون معها وهم يعتقدون جازمين خطأها. فلو استجبنا إلى كلّ هؤلاء لحلّت الكارثة بنا. والأفضل لنا التبسُّم في وجوههم، والمضيّ قدمًا في أعمالنا، وعدم التوقُّف عند النقد، إلّا ما كان منه - كما ذكر صاحبي - يبيّن خطأً لا خلاف حوله؛ كمن يذكّرك ببعض الهنات الإملائيّة أو اللغويّة، أو التعارض مع نصوص إلهيّة أو مع حقائق علميّة، أو نحو ذلك من الوقوع في أخطاء مجمَعٌ عليها، فهذه تفرض علينا التراجع والتنازل، أمّا ما بقي فالتعامل معها بالقبول شكليًّا والرفض موضوعيًّا، بينما على أصحابها تسخير جهودهم للإتيان بأعمالٍ إبداعيّة تتمثّلها، ولهم كلّ الحقّ في ذلك. ما يهمّنا في كلّ هذه الديباجة التي ابتدأنا الحديث فيها عن النقد، هو الوصول إلى الصورة المثاليّة التي ينبغي أن يكون عليها المبدع في تعامله مع الآراء التي تقال عن أعماله الإبداعيّة؛ فهو المعنيّ بكلّ ذلك، إذ إنّه الأكثر مصادمة لمجتمعه، لكونه غالبًا ما يفكِّر خارج الصندوق - كما يقال - ويستشرف المستقبل بطريقة جنونيّة قد لا تصدَّق أحيانًا. وبالتالي، فهو يعَدّ خارجًا على مجتمعه. ولو خضع لآرائهم لضاع إبداعه ولأصبح مثله مثل الآخرين من المؤدلجين أو المقولبين؛ ممّا يجعلنا نعلنها صراحةً أنّ صناعة الإبداع الحقيقيّ إنّما تبدأ من قدرتنا على التعامل الجيّد مع النقد الذي يطال أعمالنا، ولا نعني بذلك القدح فقط، فحتّى المديح والثناء يكون لهما أحيانًا أثرٌ سيّئ في حياة المبدع، فقد ينافقه البعض لأسباب متعدّدة، فتُمتدح أعماله العاديّة - أو حتّى السيّئة - بدون وجه حقّ، ومن بين هؤلاء المدّاحين من يكون صادقًا في ما يقوله، لكنّه يحتكم إلى عاطفةٍ طمست عقله وتفكيره وجعلته يرى الوجود كلّه جميلًا. وهي الصورة التي برع في نقلها الشاعر الملهَم نزار قبّاني، في قصيدته العظيمة التي تغنّى فيها بقرطبة متغزّلًا بها انطلاقًا من إعجابه الكبير بفتاة التقاها هناك وشُغف بها حبًّا، حتّى جعلته لا يرى شيئًا سواها، وذلك في قوله الجميل: سارت معي.. والشَّعر يلهث خلفها كسنابـل تُركـت بغيـر حصاد يتألّـق القـرط الطـويل بجيدها مثـل الشموع بليلـة الميـلاد.. ومـشيت مثل الطفل خلف دليلتي وورائي التاريـخُ كـوم رمـاد فكما يظهر هنا، إنّ العاطفة تلغي العقل تمامًا، وتجعل أحدنا أسيرًا لمحبوبته، وهو ما تجلّى في الوصف العبقريّ للشاعر حين جعل السنابل التي تنتظر حصادها ولا عمل لها سوى ذلك، مثل قريحته الشعريّة التي توقّفت عن الزجل وأصبحت معنيّة بالمحبوبة، لا تقول شعرًا إلّا فيها، فهي كالسنابل لن تحرِّك ساكنًا إلّا إذا أتى صاحبها ليحصدها. وأكمل وصفه البارع، حيث يخبرنا أنّه أصبح طفلًا يتهادى خلف محبوبته تقوده إلى حيث يشاء. وهو وصفٌ إبداعيّ وصادق، حتّى وإن أورده المهالك وغيّب عقله تمامًا. وهذا ما يجعلنا نقول: إنّ على المبدع عدم الانجرار خلف بعض الآراء العاطفيّة التي يجدها من محبّيه والمقربّين له، طالما لم تكن مبنيّة على أُسس علميّة ومنهجيّة نقديّة حقيقيّة، فأثر مثل هذه الإشادات يفوق أحيانًا الانتقاد السلبيّ، وكلاهما يوقفنا عن متابعة العمل، إمّا اعتقادًا منّا أنّنا لا نملك ما نقدّمه وأنّ نتاجنا سيّئ، أو لتوهّمنا أنّنا قدّمنا كلّ ما يمكننا تقديمه وعلينا التفرُّغ للاستمتاع وحصد نتيجة جهدنا. وفي كلتا الحالتين يدفع الإبداع الثمن غاليًا، وتخسر المهارة قيمتها الحقيقيّة، وتتوقّف مبكِّرًا. لذلك، أشدّد على أنّ المبدع يحتاج إلى حُسن التعامل مع النقد الذي يطال أعماله، وأن يتوسّطَ في ذلك، فلا يتوقّفُ عند تجريحٍ سمعه بحيث يفقدُه الثقة في نفسه وفي موهبته، ولا ينساق أيضًا خلف المديح فيصاب بالعُجب والكِبْر والغرور؛ فهذه الأمور تخرجه من حلبة السباق مبكّرًا. وممّا يؤكِّد ذلك، أنّ أغلب المبدعين ممّن خلِّدت أسماؤهم على مدار التاريخ، كانوا أبعد ما يكونون عن الغرور والتكبُّر، ويميلون للانقطاع عن البشر؛ كحالة الموسيقار العظيم «بتهوفن» الذي - ربّما - لو سمع ما يقال حول سيمفونيّاته لما ترك لنا هذا الإرث العظيم من الموسيقى الكلاسيكيّة الخلّابة. وينطبق هذا الأمر على الفنّان العظيم «فان جوخ» أو حتّى «ليونارد دا فينشي». فكلّ هؤلاء المجدّدين لم ينجِّهم غير حسن تعاملهم مع النقد، وتجاهل الآراء التي واكبت أعمالهم وتَركت للتاريخ بيان قيمة ما أنجزوه والإقرار بإبداعهم. وهو الحال نفسه الذي وجدَته أشعار «نزار قباني» التي جيّشت أقلامَ أصحاب الأفكار المحافِظة ضدّه، وجعلته مجرمًا في نظرهم، متجاهلةً - تبعًا لذلك - جَودة شعره وإبداعه المنقطعَي النظير. وهو ما يؤكّد أنّه كان عليهم التعامل بعدل معه، وتحكيم العقل لقبول أعماله أو رفضها إن لم تكن متوافقةً مع قناعاتهم الأخلاقيّة أو الدينيّة، من دون الذهاب باتّجاه الرفض الكلّيّ لها. والشاهد هنا، أنّ الهجمة الشرسة التي تعرّض لها، كانت لتُفقدنا موهبةً شعريّة فذّة، ما كان لها أن تَنضج وتُؤتي ثمارها لولا إصراره على المضيّ قُدُمًا في ما اختطّه لنفسه، وعدم انصياعه لما يريدون. وإلّا لكان أحد هؤلاء الشعراء الذين يعدَّون بالملايين، لكنّهم مجرّد أرقام لم يحفظ التاريخ من إرثهم شيئًا. ولعلّ هذا الأمر تكرّر أيضًا مع مبدعٍ آخر، وهو أحد أساطين الشعر في العالم الحديث، وأعني بذلك «عبدالله البردوني» الذي - بالفعل - نجا بأعجوبة من سياط النقد التي توقّفت كثيرًا عند هيأته وشكله، وكادت تقبر شعره فلا يعلم به أحد، لولا حادثة بغداد الشهيرة، حين استخفّ بهيئته الجمهور الحاضر في قاعة ملتقى المربد الشعريّ وكاد بعضهم أن يغادر قبل أن يلقي قصيدته التي أدهشت الجميع فوقفوا إعجابًا، ومن ضمنهم نزار قبّاني والبياتي، ولولا حسن تعامله - قبل ذلك - مع النقّاد، وإخضاعهم جميعًا لجبروت قافيته، إذ جعلهم يفردون الصفحات للتغنّي بأسلوبه التهكّمي المبتكَر، وبقدرته الإبداعيّة على مزج السياسة بالحالة الاجتماعيّة، والتهكُّم على كليهما بعبارات بسيطة يسهل تلقّيها وفهمها رغم دلالاتها القاسية وتأثيرها القويّ، كقوله من قصيدته الشهيرة «أنا وأنت» التي نُشرت في ديوانه «في طريق الفجر»: يا ابن أمّي أنا وأنت سواءٌ وكلانا غباوةٌ وفسوله أنت مثلي مغفّل نتلقّى كلّ أكذوبةٍ بكلّ سهوله ونسمّي بخل الرجال اقتصادًا والبراءات غفلةً وطفولة ونسمّي شراسة الوحش طغيانا ووحشيّة الأناس بطولة ونقول: الجبان في الشرّ أنثى ووفير الشرور وافي الرجولة وكان من نتائج ذلك أن أتاه الجميع خاضعين، وخرّت له رؤوس جبابرة النقد، فلم يعودوا يلتفتون لهيئته وشكله، ولم تعد قلوبهم تطبّب فَقْدَه لبصره وتداري إعاقته وتحتمله من أجلها، بل عُدَّ بصيرًا يفوق العديد من الكتّاب المبصرين. وكأنّه تمثَّل تلك الأبيات الشهيرة من معلقة الشاعر العملاق رائد الإبداع الجاهلي «أبُو الأَسْوَدِ عَمْرُو بْنُ كَلْثُوْمٍ التَّغْلِبِي» التي فاخر فيها بقومه وبشدّة بَأسهم، واتّخذها «البردوني» مطيّة لشعره وهو يصف الحال التي ينبغي أن يكونَ عليها المبدعون، في معلّقته الشهيرة التي ختمها بقوله: إِذَا مَا الملكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفًـا أَبَيْنَـا أَنْ نُقِـرَّ الـذُّلَّ فِيْنَـا مَـلأْنَا البَـرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّـا وَظَهرَ البَحْـرِ نَمْلَـؤُهُ سَفِيْنَـا إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا وكأنّه بأبياته تلك يريد إخبارنا أنّ كلّ مبدع وصل إلى مرحلة الإتقان في عطائه الإبداعيّ، وفاض إبداعه خارج الصناديق والقوالب التي أتى عليها، وأصبح لديه منهجيّته الإبداعيّة الخاصّة به، إنّما عليه أن يكون متعاليًا عن النقد المقولب، وأن يكون ضرغامًا في الدفاع عن أفكاره الإبداعيّة المتفلّتة من عقالها، ولا يخضع إلّا للأخطاء الصريحة - كما أسلفنا - وهو التعالي الإيجابيّ الذي يسمح للمبدع بتمرير إبداعاته وإظهار شخصيّته المتفرّدة، ولا نعني بذلك الكِبْر والغرور في العلاقات الإنسانيّة التي لا ينبغي بحالٍ إهمالُ دورها، وهذه سنمر على قيمتها إذا ما قدر لنا الحديث عن القيادة الإبداعيّة وسِماتها السبع التي منها العلاقات الإنسانيّة الجيّدة التي تُعَدّ ضمن أهمّ مقوّمات القيادة، وعنصرًا فاعلًا في حضور الإبداع وتنميته، كما أصبح واضحًا. وإذا ما تركنا الإبداع الكتابيّ على عمومه، واتّجهنا إلى جنس السرد تحديدًا، وأردنا ربطه بالنقد، فإنّ علينا القول، إنّ السارد المبدع لن يصل إلى هذه المرحلة إن لم يُجِد بالفعل التعامل مع النقد بحِرَفيّة عالية، فهو جزءٌ لا يتجزّأ من منظومة الإبداع، نتعرّض له فعلًا واستماعًا، وما ذلك إلّا لأنّه لن يكون كلّه سيّئًا حتّى لو أتاك من أعتى الحاقدين أو من أكابر الجاهلين؛ فالسارد لا غنى له عن تتبُّع النقد مهما كانت قيمته، والاستفادة منه في كلّ أحواله، ولكن، حتّى يكون له ذلك، عليه بدايةً تطوير أدواته، وذلك من خلال توسيع قراءاته النقديّة والسرديّة - بالانتقائيّة المطلوبة - وممارسته النقد فعليًّا؛ ولقد سبق لي في مقال سابق هنا على صفحات الجزيرة الثقافية الحديث بالتفصيل عن النقد الكتابيّ الذي يعَدّ ضمن أدوات الكاتب التي تؤهّله لاختبار كلّ ما يقال له، وبالتالي، تعينه على تحديد ما يستحقّ التوقُّف عنده، وتُبصِّره بالكثير الذي ينبغي تجاهله. وخلاصة القول، إنّ عددًا كبيرًا من أصحاب المهارات يسقطون نتيجة تعاملهم السيّئ مع النقد، وتجاهلهم لكلّ ما يقال من نقدٍ صائب، تحت ذرائع شتّى، واندفاعهم في تجربتهم المتردّية على علّاتها، وعدم تطويرهم لأدواتهم، معتقدين أنّهم يتّبعون منهجًا محدّدًا، له روّاده ومتلقّوه، حسبما يسمعون من محبّيهم. ولعلّ ممّا يجعلهم يتمادون في ذلك، عبارات الدجل التي يسمعونها من بعض المنافقين أو الجهّال التي يمتدحون من خلالها نتاجهم، في وقت نجد مكانة بعضهم العمليّة أو حتّى الثقافيّة أقلّ بكثير من النهوض بهذا الأمر، ممّا يغريهم بالمتابعة على النهج نفسه المشوب بالأخطاء، فضلًا عن ابتعادهم كلّيًّا عن الإبداع، وعدم وصولهم إلى الحدّ الأدنى من الإتقان. وهذا - يقينًا - ليس هو التصرُّف الأمثل الذي يفترض أن نبحث عنه؛ فكونك لم تصل بعد إلى مرحلة الفرز الذاتيّ والقدرة على تقييم نتاجك الأدبيّ، فإنّ عليك اتّباع ما يقوله الصادقون المهرة عن كتاباتك السرديّة، كخطوة مرحليّة يفترض ألا تطول وألا يواكبها نشر لمحتوًى مشكوك في جودته، إلّا إذا أجيز من هؤلاء. وفي الوقت نفسه عليك الاجتهاد للوصول إلى مرحلةٍ تؤهّلك لتحديد مستوى كتاباتك، وهي المرحلة التي لن يصل الكاتب إلى الإبداع إن لم يمر عليها أوّلًا، ويجتازها بنجاح. فالمبدع هو أصدق وأمهر ناقد لنتاجه، وتعدّ خبرتُه النقديّة المطبخَ الذي يتمّ فيه فرز الأقوال التي تقال عن نتاجه، وتقرير ما يُسمع منها، وما يُغلَق دونها سمعه. وإذا لم يصل إلى هذه المرحلة، يكون كمن يقف في العراء تعبث به ظروف السماء. وللدلالة على صدق ما نقول: نجد دليلًا ساطعًا في الحكايات التي تُروى عن كبار الساردين العالميّين، فكُتُبهم لم تجد طريقها إلى النشر إلّا بعد مفاصلَ صعبة جدًّا، وبعد قضائهم وقتًا ليس بالقليل يتوسّدون كتاباتهم ولا يستطيعون نشرها بسبب رفض دور النشر تبنّيها وطباعتها، في وقتٍ لم يكن النشر يتمّ بطريقةٍ تجاريّة صرفة كما هو الحال الآن؛ كرواية «مئة عام من العزلة» للروائي الأرجنتينيّ «غابريل غارسيا مركيز»، فعندما ضاقت يد «مركيز» وزوجته «مرسيدس» عن المال الكافي لإرسال نسختها الورقيّة كاملة إلى دار النشر في «بيونس أيرس»، قاما بتقسيمها إلى قسمين، وإرسالها على دفعتين، بحيث يكفي ما لديهما من نقود لإرسال القسم الأول، ثمّ أرسلا القسم الثاني بعدما رهنا بعض مقتنياتهما الثمينة، وضمنها دبلة خطوبتهما؛ وقد برهنت «مرسيدس» أنّها الزوجة الأكثر وفاء لزوجها والأكثر إيمانًا ودعمًا لموهبته. إنّ هذه الرواية التي طُبع منها ما يربو على الثلاثين مليون نسخة بكلّ لغات العالم، ما كانت لترى النور لولا القدرة الإبداعيّة لكاتبها، التي مكّنته من معرفة قيمتها والمراهنة عليها رغم المشقّة والتعب وضيق ذات اليد. فهذه المواصفات الإبداعيّة التي لا يمكن حصرها هي التي حثّته على المضيّ في عمله قُدُمًا، في وقتٍ كانت الحياة في منتهى الصعوبة ويستحيل إيقافها على تجارب غير مأمونة العواقب. ولعلّنا نستذكر في هذه القصّة ما نردده دائمًا عن القيادة الإبداعيّة وأهمّيّة حضورها في حياة المبدع، وهو ما تجلّى بكلّ وضوح في قراره بالمخاطرة ورهن حياته لعملٍ أدبيّ مشكوك في نجاحه والقبول به. وهو ما يقودنا أيضًا إلى القول، إنّ الإبداع كلٌّ لا يتجزّأ، فلا يصحُّ أن تتوافر بعض العوامل ويغيب بعضها الآخر، بل لا بدّ من حضورها جميعًا حتّى تؤتي أُكُلها، ونحصد النتيجة التي نرجوها. وبالطبع، هناك الكثير من الحكايات التي تُروى عن روائيّين عالميّين أعانهم نقدهم الذاتيّ وقدرتهم على اكتشاف قيمة كتاباتهم، على خوض المعترك الصعب، والوصول إلى القرّاء، وتحقيق أمجادهم التي كانت في فترةٍ من الفترات تعَدّ من ضروب المستحيل؛ كالكاتب العالميّ النيجيريّ «تشينوا أتشيبي»، صاحب رواية «الأشياء تتداعى»، فهو يعدّ أوّل روائيٍّ بارز من القارّة السوداء، كتب بالإنجليزيّة، وروايته الأولى كانت أوّل عملٍ سرديّ يمرّ على الحالة التي كانت تعيشها القارّة في ظلّ الاحتلال الأوروبيّ، وقد وجدت طريقها إلى العالميّة بعد نشر نسختها الإنجليزيّة في لندن. والأكيد، أنّ هذه السرديّة العظيمة ما كانت لترى النور لولا إيمان كاتبها بها، ومعرفته بقيمتها الحقيقيّة، وقتاله من أجل نشرها. ومع أنّ الصدفة هي التي أنقذتها عندما أَوكل إلى رئيسته «أنجيلا بيتي» التي كانت تقضي إجازتها في لندن، مهمّة الاستفسار عن سبب عدم طباعة النسخة الأولى التي أرسلها إلى شركة لندن للطباعة، بعد تصميمه غلافها بنفسه، وإرساله ثمنها (22 باوندًا)، مستغلًّا فرصة عرضٍ قدّمته الشركة ووصل إليه. ويقينًا ما كان ذلك ليحدث لولا ثقة الكاتب في مخطوطته، وإيمانه بقيمتها. فالصدف - باعتقادي - لا تخدم الكسول. وبالطبع، ذلك لا يلغي الدور الرائع الذي لعبته «بيتي»، وإسهامها في خروج الرواية إلى النور، ما جعله لا ينسى لها هذا الفضل؛ ويقال، إنّه لطالما ردّد في مجالسه أنّه لولا «أنجيلا» لما طُبعت روايته التي وصل عدد نسخها المباعة إلى 20 مليون نسخة، وبكلّ لغات العالم تقريبًا. وقد أفرد المترجم «عبدالسلام إبراهيم» الذي قدّم الرواية للقرّاء العرب، مقدّمةً طويلة للحديث عن التجربة الحياتيّة والكتابيّة لهذا الروائيّ النيجيريّ، متحدّثًا عن أمورٍ تتعلّق بظروف نشرها، من ذلك، طبع كاتب الرواية نسخًا على نفقته الخاصّة، وعرضها على عدد من دور النشر البريطانيّة، ورفض أغلبها تبنّيها بحجّة أنّ الأدب الأفريقيّ، في ذلك الزمن (منتصف القرن التاسع عشر)، لا يقرأ وليس له محبّون. وكيف تصدّت في نهاية الأمر دار «وليام هينمان» لهذه المهمّة وقامت بطباعة 2000 نسخة من الرواية، وتوزيعها، فتحقّق لها النجاح المنشود بعد تصدّي عدد من النقّاد الكبار لها وتحدُّثهم عنها. كلّ ذلك يقودنا ـ بالطبع ـ إلى الإيمان المطلق، بأنّ النقد الذاتيّ - كما يظهر من خلال هذه التجربة - شرطٌ أساسيّ للوصول إلى الإبداع. ولعلّ ما يؤكِّد قدرة هذا الكاتب النيجيريّ على معرفة قيمة عمله، ما قيل عنه وعن قوميّة «الإغبو» التي يتحدّر منها، والتي يمكن وصفها بالحكّاءة نظير ما عُرفت به من اهتمام بالقصص وروايتها وتربية أبنائهم عليها، خلاف ثقافة الكاتب المرتبطة بديانته المسيحيّة ودراسته الإجباريّة للّغة الإنجليزيّة، واستغلاله هذه اللغة في إرضاء نهمه وإشباع ولعه بالقراءة، حيث انكبّ خلال مرحلة دراسته الثانويّة على مطالعة عدد كبير من الروايات العالميّة المنتشرة في ذلك الوقت. وعلى أيّة حال، القصّة طويلة جدًّا، والغاية من ذكرها أنّ هذا الكاتب الذي تحصّل على عدد كبير من الجوائز (منها جائزة البوكر العالميّة) جنى ثمار قدرته على فرز أعماله وثقته بنفسه وبقيمته الإبداعيّة. وهو ما ننادي به ونحن نسعى من خلال هذه المقالات لصناعة الإبداع. ولعلّي أتوقّف هنا، رغم العدد الهائل من الشواهد عن كتّابٍ كبار وساردين عظام، انطلقوا من قدرتهم على تحديد قيمة أعمالهم ونقدهم الذاتيّ لها قبل أن تتصدّى مجتمعاتهم الثقافيّة لها. بقي أن نقول في نهاية هذا المقال: إنّ تحقيق ذلك ليس بالأمر الصعب، وينبغي أن يكون هدفًا لنا جميعًا إن كنّا نبحث بجدٍّ واجتهاد عن الإبداع الحقيقيّ في الكتابة، وأن نصل إلى ما وصل إليه من سبقونا في هذا المجال؛ فالنقد الذاتيّ أدواته معروفة، سبق أن مررنا على جلها في حديثنا المتواصل عن الكتابة الإبداعيّة كالقراءة الكتابيّة، والنقد الكتابيّ، واللغة الأدبيّة، وباقي المقالات المنشورة هنا التي تتحدّث عن تطوير أدواتنا الاستكشافيّة لذواتنا قبل إسهامها في تجويد نتاجنا؛ ما يعني أنّنا نستطيع تجهيز أنفسنا لهذا المعترك واعتماد الصناعة - لا الصدفة المحضة - وسيلةً لذلك؛ فالكتابة الإبداعيّة هدف يمكن تحقيقه إن كنّا جادّين في الوصول إليه، علينا فقط اتّباع إرشادات الطريق حتّى نصل إلى بغيتنا ويعد من أهمها فهمنا الحقيقي للنقد وحسن التعامل معه.
مشاركة :