العمل والحرية.. رؤية فلسفية جديدة

  • 9/15/2024
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

أكسيل هونت، فيلسوف ألماني بارز، وهو دون شك من آخر فلاسفة الغرب المعاصرين الأحياء، وقد أصدر كتاباً هاماً بعنوان «السيد الكادح: نظرية معيارية للشغل» (تُرجم مؤخراً إلى اللغة الفرنسية)، قدّم فيه مساهمةً فكريةً متميزةً في فلسفة العمل التي شغلت منذ أفلاطون إلى ماركس العديدَ من كبار الفلاسفة. في هذا الكتاب يركز هونت على ثنائية السيادة والعمل في الديمقراطيات المعاصرة، معتبِراً أن فكرةَ السيادة المطلقة والحرية الكاملة للمواطن لا تتلاءم عملياً مع طبيعة نظام الشغل في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة. في هذا العمل، يبين هونت أن مفهوم العمل لم يكن ينظر له بالتقدير قبل النظرية السياسية الحديثة، وقد رُبط في البداية بالاشتغال على الأشياء وحدها، على حساب أنواع العمل الأخرى من زراعة الأرض واقتصاد خدمات وتدبير منزلي. مع لوك ومن بعده هيغل وماركس، أصبح يُنظر للعمل بمفهومه الواسع من حيث هو المسلك إلى الاستقلالية والتحكم في الذات عبر مسار «الموضعة» الذي حلله هيغل بعمق غير مسبوق، مشيراً إليه بوصفه تحققاً للذات من خلال تعلقها بالموضوع وتصرفها فيه بما يفضي في نهاية المطاف إلى وعيها بنفسها. لقد سيطر هذا التصور الإنتاجي للعمل على الفكر الفلسفي والاجتماعي، وغدا العمل الصناعي هو الوجه الوحيد للشغل، رغم كونه لم يفتأ يتراجع منذ القرن التاسع عشر، كما نظر إلى الطبقة العاملة بوصفها محرك التاريخ والقوة الثورية القادرة على إحداث التغيير الجوهري للمجتمع. ومع ماكس فيبر، بدأ الانتباه للظاهرة البيروقراطية الإدارية في مقابل التركيز على المجتمع الصناعي، وإن كان فيبر ظل مهووساً بالصناعة التحويلية المنتجة. بيد أن الدراسات الراهنة بيّنت بوضوح أن الثورة التقنية الجديدة قوّضت المفهومَ التقليدي للعمل وأخرجته من نموذجه الصناعي المادي إلى مجالات الذكاء الاصطناعي والشغل غير المادي. وبالاستناد إلى أطروحته التقليدية حول الاعتراف، يدعونا «هونت» إلى النظر إلى العمل في سياق العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، بما يقتضي معالجته من منظور القيم والأخلاقيات العمومية المشتركة وليس من جوانبه الإنتاجية النفعية وحدها. وهكذا يصبح السؤال المطروح هو: هل يشكل الشغل دعامة فاعلة من دعامات التضامن الاجتماعي؟ يرى هونت أن الديمقراطيات الغربية الحديثة كرّست سيادةَ المواطن باعتباره ذاتاً قانونية تتمتع بحقوق سياسية ثابتة في مقدمتها حق الانتخاب، لكن المواطن هو أيضاً عامل، يتعرض في أحيان كثيرة للاستغلال والتنافس اللذين يحدان من السمة التعاونية للمجتمع. لم يعد مِن المجدي اليوم الرجوعُ لنظرية الاستلاب الماركسية التي أرادت إضفاءَ الطابع الأخلاقي العقلاني على نمط العمل الاجتماعي، ولا نظرية الاستقلالية الليبرالية التي حاولت محاربة التحكم السلطوي في حرية الفرد العامل، بل المطلوب هو ملاءمة طبيعة العمل مع الفكرة الديمقراطية نفسها بما تتأسس عليه من معايير الثقة في النفس والمعرفة والكرامة. وفي هذا السياق، يحدد هونت خمس قيم مرجعية لإعادة تصور العمل في المجتمعات الليبرالية المعاصرة، هي: الاستقلالية الاقتصادية، وتوفير الفسحة الزمنية للفراغ، والمشاركة في المجال العمومي، وتطوير نظام العمل بما يكفل حقوق المشاركة والتعاون بين العامل ورب العمل، ومنح العمل الطابعَ الفكري الثقافي الذي يخرجه من محض الخضوع والتبعية. ومن هنا يخلص هونت إلى إعادة تعريف العمل مِن منظور جديد يشمل كل أنماط الفاعلية داخل منظومة اجتماعية حركية ومتعاونة، بما يتعارض مع طغيان النزعة التجارية النفعية التي قضت كليا على الفوارق الضرورية بين المنتجات المادية والخيرات الرمزية والإنسانية. أطروحة هونت تندرج في سياق النظرية النقدية الاجتماعية، والتي يُعَد هونت نفسه أحد أبرز ممثليها في الوقت الحالي، ولذا فقد تناول إشكاليةَ العمل في إطار النهج الذي دشنته فلسفة هيغل بضبط العلاقة المعقدة بين الشغل والحرية والاعتراف في مجتمع تعددي حر. لقد كان هاجس هيغل، ومن بعده ماركس، هو كيف يمكن الحفاظ على علاقات إنسانية متوازنة وعادلة في المجتمعات الصناعية التي تشكل فيها تجربة العمل مقومَ التركيبة الطبقية والمدنية، بما يحوله في آن واحد إلى دائرة أساسية للاعتراف ومصدر للاستغلال والاغتراب. بيد أن أهمية نظرية هونت تتمثل في تجاوزها للتصور الإنتاجي المادي للشغل الذي يصدر عن استحقاقات الثورة الصناعية الأولى، وكان يعتبر محرك الصراع الأيديولوجي الذي يتمحور حول مكانة ودور الطبقة العاملة في الهياكل الاقتصادية والسياسية. وما نستنتجه من أطروحة هونت هو أن الخطر الذي يتهدد اليوم الديمقراطيات الليبرالية الغربية ليس تناقضات المجتمع المدني التي توقف عندها هيغل ولا الصراع الطبقي الذي تحدث عنه ماركس، وإنما الانزياح المتزايد بين منطق المواطنة وواقع الشغل في دلالته الجديدة الخارجة عن التقنين الإجرائي والضبط السياسي.

مشاركة :