لم يضخ الروائي عبدالله التعزي في روايته «حرية الأبواب المغلقة» الصادرة عن دار أثر 2016 كثيرا من الشخصيات، وهو ما دعا إليه النقاد المؤسسين أمثال «داوبتفاير» و«دوان دوات فاير» وغيرهما. على أن كثرة الشخوص في الرواية قد تفقدها جماليات هذا الفن إلا إذا كانت تلك الشخوص ذات أهمية بالغة وذات فاعلية مؤكدة في كتابة النص الأدبي وأقصد به هنا «الرواية». وما يعنيني في هذه الرواية التي جاءت بعد روايته الأولى «الحفائر تتنفس» هو عزلة «البطل» عبد الأمين نجد ذلك حينما يسرد الروائي بعض سطور روايته: «أنا في حياتي كلها لم أعرف سوى والدتي وزوجتي، لا أستطيع وصف شكل أية واحدة منهما الآن». ومن هنا يتبين لقارئ هذه الرواية أن التعزي طبخ روايته في فرن محكم غير صاخب في ما يخص البطل، ويكاد يكون هذا العالم في حيز صغير تمثله الغرفة أحياناً وحي البغدادية الشرقية في مدينة جدة في أحايين أخرى، وبالتالي فإن العزلة حاضرة كمكون أساس لبنية هذا العمل، فانكفاء الإنسان على ذاته كشكل من أشكال «عزلة المثقف» يمنحه كثيراً من حرية التفكير التي بدورها تمنحه حرية تحقيق أحلامه، فالعزلة لدى بطل الرواية بمثابة الغربة نلتمس ذلك على حد قوله: «أهرب في أحيان إلى النت فاراً من الكثير من الحكايات...»، فالهرب لدى بطل الرواية هو بمثابة استدعاء لسلوك العزلة وظروفها، بل هو شعور بالحيرة حينما نجده يهرب من كل مكان إلى جدة لتتشكل لديه غربة في وسط مجتمع يكاد يكون متحركاً في كل لحظة من لحظاته. العزلة في هذا النص الروائي لا نستطيع إغفالها فهي ظاهرة للمتلقي بما فيها من شعور بالذنب وشعور بالملل والاختناق وشعور بالهم، على رغم بعض الأصوات التي ينصت إليها من خارج البيت لكن حال القلق كحال غير موقتة لا تنفك عن بطل الرواية مع حتمية الخروج من هذه الحال بتتبع الكتابة في «تويتر» الذي يشكل له منطقة صراع خارج بيئة العزلة التي ينتهجها حتى أنه حينما يكتب في هذه الوسيلة فإنه يظل كثيراً مترقباً كل تعليق وكل رتويت لتغريدته، وهنا تنكشف حال انصياع العزلة في ذاكرة البطل للتلقي والخروج من بؤرة الوحدة التي يعيشها. العزلة ألم، بل أحياناً موت بطيء على رغم ما فيها من إبداع وصياغة لكثير من مفاهيم الحياة، المفاهيم العظيمة التي حركت الركود العام في الكتابة الروائية المحلية والعربية على حد قول الكاتب والمؤرخ الأسكتلندي توماس كارليل: «يُظهر التاريخ أن أغلب من قاموا بعمل عظيم قد قضوا حياتهم في عزلة». وبطل روايتنا «حرية الأبواب المغلقة» يكشف بأن الكتابة تؤدي قيمة انحيازية لكيانه النفسي وعلاج يؤثث لمرحلة انتقالية، وهذا ما أفصح عنه البطل حينما قال: «لقد ارتحت كثيراً بعد الكتابة وأصبحت أكثر هدوءاً وأكثر قرباً مني». وكما نتفق بأن العزلة محصلة لتراكمات نفسية واجتماعية وبيئية نتفق بأنها مبدعة إنسانياً وثقافياً، لكنها قاتلة لاجتماعية الفرد وهذا ما يفرز مرحلة أكثر صعوبة نكاد نرصدها لبطل الرواية حين نزواته وشهواته تجاه النساء بما يمثله من الإغواء الجنسي: «استمريت أكثر من سنتين في التنقل بين النساء في أحلامي من دون أن أنظر لزوجتي». وعلى رغم هذا الإغواء الذي يؤرخ لمرحلة خطرة في ذهن البطل، فإن العزلة ترافقه كثيراً، نجد ذلك في تفكيره وخياله وخصوصاً عندما تتمازج - إن صح التعبير - مع حال الاستغفار والتعوذ من الشيطان الرجيم واللجوء إلى القرآن الكريم خوفاً من العقاب، وهذا ما تمت ملاحظته في الصفحات الأخيرة للرواية. إن نمط الكتابة عن العزلة عند التعزي يمثله عبد الأمين الذي يسعى إلى تحقيق ذاته من خلال الكتابة وتحرير الذات من الانكسارات، التي تأتيه بفعل عزلته في غرفته بين زوجة وأم وخادمة. وهذه العزلة إنما تتجسد في ذهنية بطل الرواية لتؤصل نقاء العقلية التي من خلالها يستطيع أن يفكر وأن يبدع على رغم حال عدم الانسجام مع الأصوات الخارجية، بل وعدم انسجامه بينه وبين أسرته المكونة من أم وزوجة. يعيش غريباً عنهما حتى في بيته: «ثم نظرت من ثقب الباب لأتأكد أن الجميع ذهبوا للنوم في هذا الوقت، أشعر ببعض القلق وأنا أكتب عن والدتي أمام أحد غريب، وأجد أن كل الآخرين غريبون عني، بما فيهم زوجتي والخادمة». على رغم كتلة الانعزال التي تعتري بطل الرواية إلا أن الرواية تسعى لنمذجة الحرية من ذلك الثقب في الباب، ومن تلك النافذة المطلة على حارة البغدادية الشرقية، مما يثبت لنا كمتلقين بأن عبدالله التعزي اشتغل في روايته «حرية الأبواب المغلقة» على عزلة الإنسان ككائن له مشاعره وخصوصياته التي تبعده عن المجتمع والسلطة وربما أقرب الناس إليه، هذا من جانب ومن جانب آخر اشتغل على حرية تنتجها العزلة باعتبارها ذاكرة لإنتاج الأفكار على رغم ما فيها من خمول وموت. * كاتب سعودي.
مشاركة :