يُمثّل التاريخ بما يعنيه من تدبُّر وتأمُّل في أحوال مَن سبق، بغية تفكيك وتحليل كثير من قراراتهم وتصاريف معاشهم، وهو ما نطلق عليه اصطلاحا: استقراء الماضي لفهم الحاضر وبناء المستقبل، يمثل بهذا المفهوم أحد أهم العلوم المعرفية على الإطلاق، لذلك أخذت الدول المتقدمة، والشعوب الحية، الطامحة في مزيد من النماء والتطور الحضاري، بالاهتمام بالتاريخ موضوعاً ومنهجاً وحياة. وكان أن برز الغرب في إنتاج العديد من الدراسات البحثية المهمة، التي استفاد منها السياسي بشكلٍ كبير في كثير من خططه وبرامجه منذ مطلع القرن العشرين الميلادي وحتى اليوم. على أن هذا الوعي بالتاريخ الذي وضحت معالمه في تلك المدارس الغربية، لم أجدها متبلورة في إطار مجتمعنا المعرفي، ومناهجنا التاريخية، التي لا تزال تنحو نهجها الكلاسيكي المرتكز على حفظ معلومات، وتواريخ معينة، وأسماء قادة وزعماء، دون الغوص في البُعد الحضاري والاجتماعي والانثربلوجي، ناهيك عن بُعدها السياسي والاقتصادي لأي معلومة يتم حفظها. فأصبح التاريخ في ذهن مجتمعنا مجرّد وعاء لحفظ المعلومات وإعادة سردها، لا أقل ولا أكثر. وتلك هي الكارثة التي بسببها فقد المنهج والموضوع التاريخي قيمته بين الناس، ولدى صناع القرار في العالم العربي. ما يؤكد لي هذه الرؤية المتشائمة واقع تلك الملتقيات العلمية التاريخية، التي باتت في الآونة المتأخرة تعكس طبيعة الذهنية التقليدية للمشتغلين في إطار البحث التاريخي، بحيث لم ألحظ أي تميز في أغلبها من حيث التحليل، والتفكيك، واستقصاء المعلومة، والتأمل فيها، والبحث في ما ورائياتها، وهو ما تعلمته من أساتذة كبار أدين لهم بالفضل المعرفي خلال مرحلة الطلب العلمي بجامعة الملك سعود في ثمانينيات القرن الماضي، سواء بالتتلمذ أو المعايشة، كالدكتور عبدالعزيز الهلابي والدكتور عبدالله الزيدان والدكتور سعد الغامدي والدكتور عبدالرحمن الشملان والدكتور عبدالله العسكر والدكتور أحمد الزيلعي والدكتور عزالدين موسى والدكتور هشام الصفدي والدكتور عبدالله السيف وغيرهم. لهذا وإيماناً بأهمية التاريخ، وخشية من زواله منهجًا وموضوعًا، ومساهمة في تجويد ملتقياته العلمية، أقترح أن يُكتفى في كل ملتقى ببعض المحاضرات المُستكتبة لأساتذتنا الكبار، لنتعلَّم منهم، ونغرف من معينهم، تعزيزًا لمفهوم المشيخة العلمية، أو ما يُعرف بكراسي المعرفة، فما أجمل أن يكون لنا مدارس نستنبطها من تحلقنا حول أساتذة كبار نأمل أن نُكمل مسيرتهم ونزيد فيها مستقبلا، كما أرجو أن تُخصص في باقي أوقات المُلتقى ورش عمل متنوعة بحسب التخصص الدقيق، لعرض بعض الأوراق العلمية المقدمة من أصحابها، ليتم تبادل النقاش والحوار البيني حولها، بما يفيد الباحث في تطوير وتجويد ورقته وفق الأسس المعرفية التي ابتدأتُ بها مقالي. وجهة نظر أطرحها بين يد الزملاء الكرام. والله المستعان. zash113@gmail.com
مشاركة :