أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي التقدم المذهل لتقنيات الذكاء الصناعي والروبوتات الذكية أذهلت الجميع بقدراتها الفائقة وما يمكن أن تصل إليه في المستقل القريب، إلّا أن الكثيرين ربما يغفلون عن التطور المذهل والمتسارع الذي تشهده تقنيات علوم الحياة اليوم، والواقع أن هاتين التقنيتين معًا، تتداخلان في أمرين يعدان أسايين لحياة الإنسان؛ فالذكاء الصناعي يسعى لخلق حاسوب يُضاهي؛ بل وربما يفوق الإنسان ذكاءً، وعلوم الحياة تسعى للتلاعب بالحياة وبأصنافها المختلفة لتنتج لنا كائنات لم تعهدها كرتنا الأرضية من قبل بل وربما الكون بأكمله، ومن هنا فهاتان التقنيتان ليستا تقنيات عادية. والسرُّ في ذلك هو أن هاتين التقنيتين تشتركان في كونهما قائمتين على فكرة التحكم في المعلومات وكتابة الشفرات؛ فالتقنيات التي طورها أسلافنا سابقًا كانت تقوم على محاولات فهم مكونات المادة والقوى المؤثرة فيها، ومن ثمَّ تطوير مواد جديدة بناء على ذلك، لكن القرن الماضي شهد تغيُّرًا مُهمًا في تطوير التقنيات، وهو التوجه نحو المعلومة وكتابة الشفرات الحاسوبية والبيولوجية واستغلال ذلك في تطوير تقنيات جديدة. وقد توصلنا من خلال البحث العلمي أن الفارق بين الكائنات الحية وغير الحية إنما يكمن في لغة كتابة وانتقال المعلومة؛ فهناك لغة تتحكم في المادة، كما إن هناك لغة أخرى خاصة بالكائنات الحيَّة تتحكم في مواصفات الكائنات الحية وقدراتها. ويمكننا من خلال هاتين اللغتين برمجة الآلة وبرمجة الكائنات الحية، وقد نتج عن ذلك تطور علمي مذهل في برمجة الآلة، متمثلًا في الذكاء الصناعي، كما نتج عنه قدرات هائلة في مجال برمجة الأحياء؛ مما نتج عنه الوصول إلى مستويات غير مسبوقة في علم الأحياء. اليوم بات العلماء يعتقدون أن بإمكاننا- على الأقل نظريًا- أن نقوم بتخليق الكثير من الكائنات الحية ذات مواصفات عجيبة تشابه تلك التي كنَّا نقرأها في كتب الأساطير ونشاهدها في أفلام الخيال العلمي؛ بما فيها ذلك الإنسان الذي يمتلك قدرات خارقة، ولذا فهناك حاجة ماسة لمناقشة هذه التطورات ومحاولة رسم حدود عُليا لها، وخاصة إذا لاحظنا أن تاريخ التقنيات المختلفة يوضِّح لنا أن التقنيات تسير في مسار واضح مهما كانت العراقيل التي تواجهها ويتمثل هذا المسار في الوصول الى مراحل من الإنتاج الضخم، يعقبها انخفاض في الكلفة وانتشار واسع، بحيث تغدوا التقنية واقعًا تفرض نفسها على المجتمعات البشرية، ولذا تضطر تلك المجتمعات لشرعنتها وقبولها. وسنتناول من خلال هذه السلسة من المقالات تاريخ علوم الحياة وحاضرها وفلسفتها والتقنيات القائمة عليها ومن ثم نحاول أن نجيب على السؤال المتعلق برسم الحدود العليا لهذه العلوم والتحديات المرافقة لذلك. إنَّ العودة الى تاريخ علمي الكيمياء والأحياء يوضِّح لنا بجلاء أن الإنسان في بداية اقباله على هذه العلوم كان أقصى ما يهدف اليه هو فهم المادة الحية وغير الحية، ويُطلق مصطلح الأحياء على محاولات فهم المواد الحية بينما يطلق مصطلح الكيمياء على محاولات فهم المواد غير الحية. بدايةً كان العِلمان يقتصران على وصف المواد غير الحية والحية من حيث الشكل الخارجي، ثم انتقلا الى مرحلة أكثر تطورًا وهو ما يعرف بمرحلة التحليل، وفي هذه المرحلة تغير مفهوم "الفِهْم" نفسه في هذين العلمين، فغدا المقصود منه هو التعرف على تركيب المادة الحية وغير الحية، فما هي الأجزاء التي تتكون منها، وهل تلك الأجزاء تتكون من أجزاء أصغر منها وهكذا بدأنا نبحر ونغوص في أعماق هذه المواد لنتعرف على تركيبتها ومن ثم نحاول أن نربط بين تركيبتها وبين خواصها الفيزيائية- كخشونة سطحها- والكيميائية -كقدرتها على اجراء تفاعلات معينة؛ وهذا النوع من الفهم يطلق عليه كما أشرنا سابقا بالفهم التحليلي للمادة. وكان علما الكيمياء والأحياء يمارسان هذا النوع من الفهم للمادة. ومع تطور علم الكيمياء في مجال التحليل، لاحظ العلماء أن أجسام الكائنات الحية تتكون من مُركَّبات كيميائية، تمامًا كما هو الحال مع الجمادات، ولكن الاعتقاد الذي تولّد آنذاك بأن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بتصنيع المُركَّبات التي تتكون في أجسام الكائنات الحية أو التي تتكون منها أجسام الكائنات الحية. ومن هنا فقد تم تقسيم علم الكيمياء الى قسمين: الأول الكيمياء غير العضوية؛ وهي مُركَّبات لا تتواجد في أجسام الكائنات الحية، والقسم الآخر: الكيمياء العضوية؛ وهي المُركَّبات التي تتكون منها أجسام الكائنات الحية أو تنتجها الكائنات الحية. وهناك قوة خفية أُطلق عليها قوة الحياة هي التي تستطيع أن تصنع هذه المُركَّبات، ولا يمكن للقوى الطبيعية التي نعرفها أن تقوم بتصنيع هذه المُركَّبات. وظل هذا الاعتقاد سائدًا لفترة طويلة من الزمن والمُعبَّر عنها بـ"قوة الحياة"، لكن الكيميائي فريدريش ويلر قام في عام 1828، بتصنيع مُركَّب يُعرف باسم "يوريا"، يتواجد في الكائنات الحية من مُركَّب مُصنَّع لا يتواجد في الكائنات الحية. وقد أثار هذا التصنيع تساؤلات عدة حول دور "قوة الحياة"، فإذا كان بإمكاننا إنتاج مُركَّبات تتواجد في أجسام الكائنات الحية من مُركَّبات جامدة لا حياة فيها، فلماذا نفترض أن هناك قوة خاصة ميتافيزيقية تتواجد في الكائنات الحية مسؤولة عن تكوين هذه المُركَّبات العضوية بشكل مباشر! وقد علّق ويلر على ذلك في رسالته لزميله؛ حيث قال له إنه "قام بتصنيع مُركَّب عضوي (اليوريا) دون الحاجة الى كُلية أو أي حيوان أو انسان، ولا يوجد فرق بين ما قمتُ بتصنيعه وبين ما يتواجد في بولي". كانتْ لهذه التجربة البسيطة آثار كبيرة، فلقد تجرَّأ علماء الكيمياء وقوِيَت شوكتهم وشمّروا سواعدهم لتصنيع المُركَّبات العضوية التي كان يُعتقد أن لا أحد من البشر بإمكانه تصنيعها! وللحديث بقية،،، ** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
مشاركة :