صناعة كائنات حية جديدة أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي ** ذكرنا في المقال السابق كيف أن علماء الكيمياء استطاعوا تصنيع مُركَّب يتواجد في الكائنات الحيَّة، وهو مُركَّب اليوريا، وكان ذلك إيذانًا بتصنيع هذه المُركَّبات التي كان يعتقد سابقًا بأن الإنسان يعجز عن تصنيعها؛ ففي عام 1845م تم تصنيع مُركَّب الخَلّ في المختبر من مُركَّب غير عضوي ودون الاستعانة بأية كائنات حيَّة، وكان من المعروف بأن الخل إنما يُنتج من عمليات التخمُّر، وكان معروفًا آنذاك بأن عملية التخمير إنما هي عملية بيولوجية. ثم جاء الكيميائي إدوارد بوخنر عام 1897م، وطرح تساؤلًا مفاده هل نحتاج إلى كائنات حيَّة للقيام بعملية التخمُّر، أم أن السرَّ يكمن في المُركَّبات الكيميائية الموجودة في تلك الكائنات الحيَّة فهي الكفيلة بالقيام بذلك؟ ولأجل التحقق من فكرته، قام بوخنر باستخدام الخميرة والتي يوجد بها عدد كبير من الخلايا الحية، وقام بطحنها وقتل تلك الخلايا ومن ثم قام باستخلاص المُركَّبات الكيميائية منها، واستخدمها مع محلول السكر، ووجد أنَّ السكر قد تحول إلى كحول وغاز ثاني أوكسيد الكربون، وهي نفس المُركَّبات التي تنتج من عملية التخمُّر البيولوجية. وبذلك أوضح بوخنر أنَّ هناك مُركَّبات كيميائية موجودة في الكائنات الحيَّة هي التي تقوم بإنتاج بقية المُركَّبات الكيميائية الموجودة في الكائنات الحية، وقد حصل عام 1907م على جائزة نوبل في الكيمياء اعترافًا بجهوده في الكشف عن طرق تكوين المُركَّبات الكيميائية الموجود في أجسام الكائنات الحيَّة. وكما نلاحظ فقد بدا أن هناك تداخلًا كبيرًا بين علمي الأحياء والكيمياء؛ فالكائنات الحية تتكون من مُركَّبات كيميائية تتحكم في نشاط الإنسان وحركته تماما كما هو الحال في الجمادات والتفاعلات الكيميائية تحدث داخل الكائنات الحية، كما تحدث خارجها. وبهذا فإن علم الكيمياء لم يقتصر على تحليل الكائنات الحية والغير حية والكشف عن مكوناتها؛ بل قام بعمليات تصنيع تلك المكونات أيضا، فبعد أن استوعب وفهم تركيب المواد قام بتصنيع المواد المختلفة كاليوريا والخل، والفكرة التي انطلق منها في تصنيع تلك المواد بأن الفهم الصحيح لتركيب المواد والتعرف على أجزائها انما يتم التحقق منه من خلال تصنيع تلك المواد، فالقدرة على التصنيع يدعم وبقوة أن فهمنا لميكنة التصنيع صحيحة. بينما ظل مفهوم علم الأحياء منحصرًا تقريبًا على عمليات تحليل الأجزاء المكونة للكائنات الحية، لكن التطور المذهل في القرن الأخير في علوم الكيمياء الحيوية والأحياء الجزيئية، كالبروتينات ومُركَّبات "دي إن إيه" و"آر إن إيه" والجينات، ومن ثم تعرَّفنا على الشفرات الوراثية والخرائط الجينية، جعلنا نقفز من الأحياء التحليلية إلى علم جديد يعرف بالهندسة الجينية. ويمكن تعريف الهندسة الجينية بأنها تقنية يتم فيها قص ولصق جزيئات الحمض النووي من مصدرين أو أكثر، ومن ثم يتم دمجها وإدخالها بالكائنات الحية المضيفة بحيث يكون لديها القدرة على أن تتكاثر فيها، وتصبح تلك الكائنات الحية مُهندَسة بشريًا. وقد غدت هذه التقنية منتشرة بصورة كبيرة جدا وخاصة في النباتات، فقد شهد عام 2021 إنتاج طماطم معدلة جينيًا في اليابان تحتوي على كميات تعادل خمس أضعاف ما تحتويه الطماطم العادية من ناقل عصبي مُثبط يدعى "جابا" والذي يلعب دورًا مهمًا في السيطرة على مشاعر القلق والخوف والاكتئاب. كما إن هناك صنفًا من التفاح المُهندَس جينيًا لا يتغير سطحه الداخلي إلى اللون البني بعد تقطيعه، كما يحدث مع التفاح غير المُهندَس جينيًا؛ اذ تمت معالجة التفاح جينيًا من خلال إزالة الجينات المسؤولة عن تكون إنزيم "بولي فينول أوكسيداس"، والذي يُسبِّب تكون اللون البني للسطح الداخلي للتفاح. لكن الأمور لا تقف عند هذا الحد، ففي بدايات العقد الثاني من هذا القرن، تم تطوير تقنيات متطورة جدًا تسمح بإعادة وتغيير شفرة الدي أن أيه بدقة عالية وبسهولة ويسر وأطلق عليها اختصارًا (CRISPR) وسنطلق عليها في هذه المقالات (المقص الجيني)، وعلى إثر هذه التقنية فإن علمًا جديدًا كان في طور النمو تطور بشكل متسارع وهو ما يعرف بالأحياء التصنيعية، ولأن موضوع علم الأحياء التصنيعية هو تصنيع كائنات حية جديدة بوظائف مختلفة وإجراء تغييرات عليها أطلق عليه علم الأحياء التخليقية، فالكائنات الحية لا تُصنَّع؛ بل تُخلَق. وعلى الرغم من أن هذا العلم انبثق من علوم الهندسة الجينية، إلّا أنه يمثل مرحلة أكثر تطورًا منه، فهو لا يرتبط بإجراء تغيير في الخارطة الوراثية للكائنات الحية فقط؛ بل يقوم بأكثر من ذلك، وتُعرِّفه المفوضية الأوروبية على أنه هندسة المكونات والنظم البيولوجية غير المتواجدة في الطبيعة وإعادة هندسة النظم البيولوجية الموجودة بناء على فهمنا للنظم الصناعية وليس بناءً على فهمنا للنظم الحيوية. والملاحظ من التعريف أنه لم يشر إلى الهدف من هذا العلم وما يسعى اليه، كما إنه يقوم على فهمنا للنظم الصناعية والتي نقوم بتطويرها لأهداف وغايات معينة نستفيد منها، وهذا ما قد نجده في تعريفات أخرى، وربما يكون من الأفضل تعريفه بأنه علم يقوم بتصميم وبناء نظم بيولوجية جديدة (كائنات حية جديدة) وإعادة تصميم الأنظمة البيولوجية الطبيعية الموجودة لأغراض نعتقد بأنها قد تعود بالفائدة على الإنسان والحضارة البشرية، كما إنه يسعى في الوقت نفسه لاستخدام أجزاء حيوية في نظم غير حيوية واستخدام أجزاء مصنعة في النظم الحيوية. إنَّ ما يسعى إليه علم الأحياء التخليقية لا يتم من خلال تغيير بسيط في شفرة الخارطة الوراثية للكائنات الحية؛ بل بإدخال تغييرات مُركَّبة فيها، وأحيانًا زرع جين جديد مُصنَّع في الكائن الحي، وهذا يعني تدخل مباشر في إيجاد كائنات حية جديدة لها إمكانات مختلفة لم تكن موجودة في الطبيعة أصلًا؛ بل إن هناك بحوثًا تقوم بإدخال مُركَّبات مُصنَّعة لا توجد في الطبيعة بحيث تصبح جزءًا من كائن حي، وتتحول إلى مُركَّبات طبيعية. وسنتناول في المقال التالي بعض المُنتجات القائمة على الأحياء التخليقية أو التي سنراها تغزو أسواقنا في الأعوام القليلة المقبلة. وللحديث بقية،،، ** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
مشاركة :