«السفسطة» في زمن الديمقراطية

  • 5/11/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

رئيس جمهورية نفسه.. هذا التعبير أصبح شائعاً في كثير من دولنا العربية خاصة بعد أحداث الربيع العربي ويعكس كما هو واضح من مضمونه حالة السيولة السياسية والفكرية التي ضربت بعض مجتمعاتنا تحت مظلة واسعة جداً من مزاعم الحريات الشخصية والمشاركة الديمقراطية والحراك السياسي. لا غضاضة في ذلك إذا كانت الأمور تخضع للضوابط المجتمعية السليمة أخلاقياً وسياسياً وقانونياً، ولكن شواهد عديدة أمامنا تؤكد أننا بصدد ممارسات منفلتة لا تخضع لأية قواعد أو ضوابط إلى حد أن كل فرد تحول إلى رئيس جمهورية نفسه فأصبحت الحكومات مهمومة بمواجهة وتلبية احتياجات ومتطلبات والتزامات عشرات الملايين من رؤساء الجمهوريات على غرار التعبير الشهير الذي أطلقه رئيس فرنسي سابق أنه يحكم شعباً يعشق مائة نوع من الجبن، شاكياً بذلك من كثرة الآراء وتعدد التوجهات وصعوبة التوفيق ما بين الأمزجة البشرية. لا عيب في ذلك أيضاً إذا ما كانت الأمور تمارس بعقلانية ورشد وفي الإطار السليم للقواعد الديمقراطية الحاكمة وليس على أساس قاعدة رئيس جمهورية نفسه التي أشاعت الكثير من مظاهر الفوضى والانقسام والاستقطاب في ربوع أمتنا العربية مما أدى إلى تعطل عجلة التنمية وتراجع الاستقرار الأمني والمجتمعي.. وتتحمل مسؤولية ذلك إلى حد كبير- بجانب غياب الضوابط والقواعد المنظمة للعمل السياسي والديمقراطي- الأحزاب السياسية والنخب الثقافية وكذلك وسائل الإعلام الأرضية والفضائية والإلكترونية التي أغرقت تلك المجتمعات في موجات جديدة من السفسطة وسط ممارسات ديمقراطية غير رشيدة. والسفسطة كما هو مستقر علمياً مذهب فكري- فلسفي نشأ في بلاد اليونان القديمة، إبان نهاية القرن السادس وبداية القرن الخامس قبل الميلاد بعد انحسار حكم الأقلية وظهور طبقة حاكمة جديدة تمثل الشعب، ومع أن السفسطائيين كانوا محنة لأنهم تلاعبوا بالمدارك الفلسفية واستخدموا تعليماً في سبيل كسب المال لكنهم قد أفادوا المجتمع في أنهم أثاروا في نفوس الشباب شيئاً من الرغبة في طلب العلم. لذا كان المنتخبون يلجؤون للأشخاص الأكثر وضوحاً في الكلام والأكثر إقناعاً لتحريك مشاعر وعواطف الناس، والمعلوم تاريخياً أن السفسطة ذاتها والتي تقوم على الجدال لحد ذاته كانت سبباً في إشاعة الكثير من الفوضى المجتمعية، وتكاد أمتنا العربية بالفعل أن تعيش الآن حالة مطابقة بزعم التمدد الديمقراطي، ولكنها في الغالب حالة لا تعكس ديمقراطية حقيقية، لأن الديمقراطية لا تعني ممارسة العمل السياسي في الشوارع أو اتخاذ القرارات عبر الحشود الجماهيرية وإلا تحولت إلى غوغائية فوضوية شاملة كما يحدث في بعض الدول حالياً. فالنظم الرشيدة تلتزم بآليات مؤسسية في عملية صنع القرار مادامت تحظى من الأساس بدعم جماهيري قوي أو لكونها نظم منتخبة انتخاباً حراً مباشراً ونزيهاً، في هذه الحالة تحظى الحكومات المنبثقة من هذه النظم بتفويض قوي في إدارة شؤون البلاد واتخاذ ما تراه صائباً من قرارات وإجراءات تحقيقاً للصالح العام، وهي بكل تأكيد وفي ضوء ذلك ليست مطالبة بالعودة إلى الشارع أو الحشود الجماهيرية لبناء توافق مجتمعي على قرار معين وإلا أصيب دولاب العمل في الدولة بالعطب التام. ولا يعني ذلك بالتأكيد تجاهل الشعب والتوجهات الجماهيرية ولكنها أيضاً لا تقاس بغوغائية الشارع، فهناك مراكز قياس الرأي العام وأساليب علمية متعددة لمعرفة توجهاته .. وبالتالي وضعها في الحسبان عند صنع القرارات، فمن المفترض أن التفويض الذي منحته الجماهير لأي نظام أو حكومة يمثل تعاقداً بين الطرفين على إدارة شؤون البلاد وفقاً لبرامج وخطط وسياسات معلنة وواضحة، أما الثورات وخروج الجماهير للشوارع فلها منطق مختلف تماماً وكذلك لها ظروف وملابسات وعوامل لا تعيشها المجتمعات كل يوم. وبالتأكيد هذا لا ينفي إمكانية حدوث مظاهرات جماهيرية لأسباب طارئة أو عارضة ولكنها أيضاً لا تعني إمكانية تحولها إلى قرارات لصالحها أو لإلغاء قرارات لا تحظى بالجماهيرية، وربما تطرح تلك الحقيقة في حد ذاتها تساؤلات حول ديمقراطية الصندوق ومدى تمثيلها الفعلي لجموع الشعب خاصة إذا ما كانت تقوم على الأغلبية البسيطة. وقد لا نجد مثالاً للتدليل على ذلك أفضل من الغزو الأميركي- الغربي للعراق عام 2003، فليس خافياً أن هذا الغزو لم يتمتع بأي شعبية دولية ورفض مجلس الأمن الدولي إصدار قرار بتأييده، وقبيل الغزو اندلعت في عواصم العالم الكبرى . وفي المدن الأميركية والأوروبية مظاهرات حاشدة بالملايين ترفض العدوان الجديد علي العراق، وتم اتخاذ قرار الغزو وفقاً لآليات صنع القرار وضد اعتبارات الجماهير، ويعني ذلك أن سفسطة الشارع لا مكان لها في ديمقراطية الصندوق حتى ولو كانت هي بحد ذاتها في حاجة إلى إعادة النظر.

مشاركة :