أظن أننا نقف على عتبة زمن لا يمكن أن نُعاير فيه مقاييس الكسب المادي والدخول الفردية. فالفنان في أمريكا مثلاً له دخل مادي أكثر من رئيس الجمهورية. الطقاقة تكسب أكثر من الطبيب الاستشاري في المشرق. والرياضة دخلت في سنيننا الأخيرة لتقف شامخة في بورصة التنافس المالي. وهكذا. والمغنون قديماً يأخذون مكانة في مجالس الولاة ويُستدعون للولائم والأفراح. ولم يكن لهم سعر محدد بل هناك "جائزة" للشاعر أو المغنّي، وقد تكون تلك المكافأة مالاً أو "جارية" إن صدقت روايات تاريخنا الفني. مفردة الأغنية في اللهجة الدارجة المصرية اسمها "مَغنى" وفي الشام "غِنّيّة" وفي الجزيرة العربية "غنى" بسكون الغين. الذين يقرؤون عن تاريخ الغناء الحديث في وسط الجزيرة العربية سيجدون أن أغلبه كان للمتعة النفسية وليس للكسب المادي، كما هي عليه الحال الآن. فلم يكن ثمة مشاريع.. وشراكات.. ومجالس إدارة.. لتجمعات غناء وأشرطة و"طرح ألبومات" ومن هذا الكلام. الغناء في نجد قيل عنه في ذلك الوقت إنه طاقة مصدريّة لبعض النشاطات البدنية الحركية.. فالحرّاث.. وكانوا يسمون "الختّامة" الذين يحرثون الأرض استعدادا للبذر، كانوا يغنون.. وتومئ حركات أجسامهم إلى الأعلى والأسفل تبعاً لحركة بيت الشعر. وسمعنا الطحّانات.. يتناوبن على طحن المؤونة ويرددن الأغاني.. وكان المارة يسمعونها.. وبعضهم يقف طرباً.. وقد أحس بوقع اللحن. وسمعنا عمن يتبرع بجهده.. من جيران المنزل، ويتطوع ل.."تنعيل" سطوح منزل في الجوار، بعد ان تآكلت الأرضية بفعل الأنواء. فيضيف صاحب المنزل طينا طرياً، وتجري العملية بتمرير الأرجل جيئة وذهاباً حتى تتساوى الأرضية.. وِأثناء العملية يتشارك المتبرعون في ألحان حماسية وقد تشابكت الأذرع. وتجري هذه العملية عند "تنعيل" المنازل الجديدة.. وكل ذلك "ببلاش".. أي فزعة.. نأتي إلى العرضة.. أو أهازيج الأقدام.. وهي معروفة.. سائقو الشاحنات.. مع ركابهم أو مساعديهم يغنون للتسلية.. وطرد الملل والنوم. و"كله ب.. بلاش".. قارنوا حالات شركات الأغاني.. والطقّاقات.. الآن، وسترون أن "هج الأثم" = الفم، له بورصة ووكلاء وموزعون ومحامون ومتابعون لحقوق النشر والأداء.
مشاركة :