لقرون كانت النخب المثقفة تعتقد في ذلك الجدل السفسطائي، الذي يرى بأن الأديب هو جملة من الإرهاصات المعرفية التي تتشكل ذاتيا وتتقولب في هيئة كيان مبدع، يطالعنا لاحقا بحالة من الإبداع ثم يستمر في حالة من الظهور الإبداعي المتتالي ليستقر في كينونته النهائية والأخيرة كأيقونة أدبية يشار إليها بالبنان. لكن الحقيقة والواقع المرحلي تجافي كل ذلك. فقد أضحى الأديب يصنع والمبدع يتم تشكيله وصبه في قالبه الماثل للعيان. فقط هو يحتاج إلى أن يمتلك موهبة متواضعة جداً، وشبكة عميقة ومتسعة و- واصلة من الأصدقاء المتوزعين في عصب صناعة الثقافة لدينا، سواء في قمة الهرم أي الجهة المسؤولة عن الثقافة والمثقفين أو في باقي أطراف وجنبات الهرم، كالصحافة والتلفزيون والأندية أدبيةالخ. ولذا فنحن نجد الساحة الثقافية الآن تعج بالمئات ممن يطلقون على أنفسهم روائيين وشعراء وكتاب قصة ومسرحيين وحتى نقادا. بالإضافة لعشرات من المؤلفات التي لاتساوي قيمة الورق الذي دونت عليه. فهل نحن نعيش في زمن المسخ؟ كما كان يردد زكي بك الدسوقي بطل رواية عمارة يعقوبيان للروائي المصري علاء الأسواني. أم هو زمن متجدد من الثقافة أعجز أنا وغيري من راديكاليي الثقافة عن فهمه فكيف بالولوج إلى ردهاته وفهم أسبابه ومالآته؟ كان الشاعر أو القاص والمثقف عموما في الماضي يقرأ كثيراً، كما كانت قراءاته تتسم بالانتقائية. فنجده ينطلق في قراءاته من أمهات كتب التراث الثقافي العربي، لينتقل لاحقا في قراءاته للنتاجات الثقافية العربية. ويحرص في ذات الوقت على مطالعة الأعمال الغربية المترجمة بشكل جيد كترجمات الراحل د. لويس عوض أو المعجمي اللبناني الراحل منير البعلبكي. في حين أن من يمتلك لغة أجنبية، قد كان يتحصل على المعرفة الأدبية العالمية من أصولها ولذا فهو في ثقافته يكون في الغالب إستثنائيا، وربما ذلك هو السبب الرئيس لحرص الأديب العربي الراحل عباس محمود العقاد على تعلم الإنجليزية وإتقانها تحدثا وكتابة رغم أن تعلمها من قبله لم يكن في سن مبكرة من عمره المديد. ولذا فقد كان الأديب العربي عموما والسعودي على وجه الخصوص قبل أربعة عقود هو حالة من الثقافة والتجديد والإبداع الأدبي والفني على الدوام. فأدباء ومثقفون سعوديون كسعد البواردي وغازي القصيبي وسعيد السريحي وعبدالرحمن منيف وآخرين من أدباء ومثقفي الوطن لم تتشكل كينونتهم المثقفة من فراغ. حالياً ومع الإيقاع المتسارع للزمن وما نتج عنه من كثرة أعباء الناس وانشغالاتهم بعديد من الأمور الحياتية، فقد بدأت شخصية المثقف القارئ الانتقائي تتعرض لحالة من «الاحتضار المرحلي»، وحل بديلا عنها «المثقف الإلكتروني». وهو ذلك القارئ الذي يقلب بأصبعه شاشة هاتفه المحمول ومن خلال المحتوى المعرفي القاصر والمشوه للسوشيال ميديا وباقي مواقع التواصل الاجتماعي وصفحات الإعلام البديل يتحصل على معرفته الخاصة وتتشكل ثقافته الذاتية. وهي ثقافة سطحية للغاية لاتتجاوز أسماء بعض الأيقونات الأدبية العالمية وأسماء بعض الإبداعات الكتابية كذلك، مع حفظ بيتين أو ثلاثة من مقدمة بعض المعلقات والقصائد العربية. فهل ستكون شخصية المثقف السعودي الجيد مهددة بالزوال بعد رحيل من تبقى بيننا من المبدعين الرواد؟ الجواب أتركه لك أخي القارئ ولمتتاليات الزمن المستقبلي.
مشاركة :