عاشت أمتنا منذ عقود، وما تزال في صراع مع فكر التطرف والتكفير والغلو، بمؤثراته وتأثراته الخطرة، لعل أهمها التفجيرات الانتحارية، وتفجير الطائرات والمطارات، وأماكن العبادة وغيرها من الأفعال والممارسات، وأغلب هذه الأفعال والممارسات تصيب الأبرياء، سواء كانوا من المسلمين أو غير المسلمين مع أن المسلم أكثر المستهدفين من المتطرفين والتكفيريين! والشيء الغريب واللافت أن هذه الأعمال المشينة، تتحدث باسم الدين وباسم الجهاد ومرضاة الله، مع أن كل النصوص القطعية من القرآن الكريم والسنة النبوية، وأقوال المدارس الفقهية الإسلامية، تحّرم قتل الأبرياء، وترفض قتل غير المسلم غير المحارب، والمحارب أيضاً، هناك تشريعات لا تجيز قتله إلا ببيّات وقرائن، إلا في حالة الدفاع عن النفس، كما أن غير المسلم الذي يدخل البلاد العربية، يعد في رعاية هذه الدول وحمايتها، لأنه دخل بجواز وإقامة وليس محارباً، هذه كلها تدحض ما تفعله هذه الجماعات. والحقيقة أن انتشار التطرف بشكل لافت، مدعاة للنظر والمراجعة، لماذا ينتشر هذا الفكر مع هزائمه وتراجعاته العسكرية منذ عقدين أو يزيد ؟ الحقيقة أن الرؤية ضبابية في أسباب الانتشار الكبير لفكر التكفير والتطرف في عصرنا الراهن، بل إن بعضاً من هؤلاء هم ممن عاش في الغرب، من العرب والمسلمين، وبعضهم من الأوروبيين أنفسهم، فإن الأمر يزيدك في الحيرة والاستغراب من شباب كل دراسته كانت وفق المناهج الغربية، وهذا يدحض المقولة التي رددها بعض من الغربيين في بحوث ودراسات عديدة، إلى جانب بعض من العرب والمسلمين أيضاً، من أن بعض النصوص الدينية في مناهجنا هي السبب في هذا التطرف والتكفير والغلو، ولابد من تغيير هذه النصوص، حتى يتم سحب هذه الأفكار التي تشجع على التطرف والتكفير، وما حصل من تفجيرات ومن أعمال إرهابية في الغرب، وخاصة في فرنسا وبلجيكا في الأشهر الماضية، كانت من فعل شباب تربوا وعاشوا في الغرب، ودراستهم كانت غربية تماماً! ومن هذا المنطلق من المهم البحث عن أسباب ومسببات هذا التطرف، الذي امتد إلى شباب ثقافتهم غربية، وبعضهم كان في حياته من رواد المراقص، وعاش حياته بعيداً عن التدين، الذي يقال إنه السبب في هذه الأفعال المتطرفة والإرهابية. والحقيقة أن الإرهاب والتطرف اللذين يعدان الآن قضية القضايا، ومحط أنظار العالم واهتمامه وتوجسه، لهما أسباب كثيرة، ما يجعل حصره في مسألة أو قضية واحدة فكرة هلامية وتبسيطية غير صحيحة، فالإرهاب والتطرف يتمايزان في منطلقاتهما، وهذا التمايز يجعل هذه الظاهرة الإرهاب والتطرف تختلف من بلد لآخر تبعاً لأسباب وعوامل عديدة، ومتداخلة في نفس الوقت. منها العامل السياسي وهو الأكثر بروزاً إلى جانب العوامل الاجتماعية والدينية والاقتصادية والثقافية والفكرية، وهكذا فظاهرة التكفير والتطرف والغلو، ظاهرة مركبة ومعقدة، ومن الإنصاف أن تكون النظرة إليها شاملة ومتوازنة، ولا تقف عند عامل واحد فقط، ونغض الطرف عن الأسباب الأخرى. فبعضهم يرجع قضية الإرهاب والتطرف إلى الجهل وقلة العلم والفهم بأمور الدين والدنيا، وبعضهم الآخر يراها نتيجة من نتائج الفقر والبطالة في مجتمعات عربية عدة، ويعدها بعضهم نتيجة من نتائج القمع السياسي والاستبداد وغياب الحرية والديمقراطية، ويعدها بعضهم مشكلة نفسية واجتماعية وأسرية..إلخ، وهذا التحليل أخذ جانباً من الجوانب، دون النظر إلى جوانب أخرى، ولذلك فإن من المهم والأدق، البحث عن الأسباب، في كل حالة من الحالات، ذلك أن دخول الكثير من الغربيين مع داعش كمقاتلين في العامين الماضيين، يبرز أن الأمر يحتاج إلى استقصاء أوسع وأكبر، حتى يتم البحث في جذور هذا الفكر وأسبابه، دون أن يضع كل الممارسات الإرهابية في سلة واحدة. ويرى الكاتب حسن أبو هنيّة المتخصص في هذه الجماعات أن صعود هذا التنظيم، محلياً و إقليمياً، ليس طارئاً، وهزيمته تتجاوز الجانب العسكري والأمني، إلى مواجهة الشروط الموضوعية السياسية التي تقف وراءه، ووراء التنظيمات والنماذج الشبيهة. ولذلك لابد من المواجهة الفكرية أيضاً، لأن هذه التنظيمات تتغذى على مستنقعات التوترات والإحباطات والإقصاء في الكثير المناطق الملتهبة. هذا الفكر التكفيري، ليس نبتة جديدة تبرز مع داعش والنصرة، فهو موجود عبر التاريخ. وفي عصرنا الراهن نتذكر، جماعة التكفير والهجرة التي قتلت الشيخ الذهبي وزير الأوقاف المصري في 1977. والأفكار التكفيرية التي كانت تحملها التكفير والهجرة، لا تختلف كثيراً عن فكر داعش وجماعات التطرف والغلو الأخرى، وإذا كان ثمة اختلاف بين تلك الجماعات، فهي اختلافات هامشية وليست جوهرية، ولذلك فإن هذا الفكر يحتاج إلى مواجهة فكرية أيضاً، ربما تكون أقوى من الجانب العسكري. عبد الله بن علي العليان alaliyan@gmail.com
مشاركة :