قال أبو عبدالرحمن: مِسكينٌ مسكينٌ طالب العلم الذي لا يجيد غير لغته الأمِّ التي نشأ عليها، وهو مُبْتَلىً بحبِّ الاستطلاع، وعنده شيئ مما يُسَمَّى بلغة العصر (مُرَكَّبَ النقص)؛ لأنه كما قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: «يغيظه أن يتكلَّم الناس فيما لا يحسنه هو»؛ وذلك أن (غُمَّةَ الجهل) خانقة؛ فهذا لا مفرَّ له من إحدى أربع حالات: فإما أن يُشَمِّر عن ساعد الجد ويتعلَّم ما جهله كمضامين اللغة التي يتحدَّث بها الآخرون، وهذا لم يُقَدِّره الله لي؛ لأنني مربوط بمعارفَ التصق بها عقلي ووجداني روحاً وقلباً؛ فلا سَعَةَ لي في تعلُّم لغة ثانية، ولا سعة لي في تعلُّم قراءة الكمبيوتر والإنترنت ولو كان في الجوَّالات الحديثة.. ثم إن ما يتحدَّث به الآخرون ذوو الاختصاص هو مما يجهله كثير جداً من المثقَّفين؛ لأنه من المحال لو عُمِّرتَ عمر نوح، وكنتَ من أذكى الناس أن تحيط بعلوم البشر.. وإما - وذلك هو الحالة الثانية -: أن تستلقي على فراش اللامبالاة، وتقول: ثُمَّ ماذا؟.. لن يغيظني هذا الجهل، وأنا في غِنىً عن العلم بما يقولون.. فهذا مفتاح لمركَّبِ النقص؛ فإن سَلِمَ من ذلك فلن يسلم من المُكابرة ما دام مَبْلِيَّاً بحب الاستطلاع، وسيظل في غبن وقلق يتجاذبُه غَبْنُه مما جهله، وجِبِلَّتُه على حب الاستطلاع.. وهذا أمر بحمد الله تغلبتُ عليه كما سيأتي بيانه.. وإما (وذلك هو الأمر الثالث) أنْ يُسْلِمه مُرَكَّبُ النقص إلى داءٍ يُسمُّونه (انفصام الشخصية) أعوذ بالله من ذلك؛ فيكون واقعه الذي يُشاهده الناس ولا يُشاهده هو: (قصوره الفكري والعلمي والثقافي)، ويكون واقعه هو الذي في وِجدانه ولا يعلم به إلا الماهرون في التحليل النفسي وما يُعين على ذلك من مُنْجزات الطب: (أنه فوق ما يعلمه الناس، وأن ما عَلِموه تفاهات)؛ فتنقادُ له أحلامُ اليقظة التي تجعله مَلِكاً ولم ترفع له رأْساً، وفي أحلام السوريالية مفاتيح لهذا الجنون الغامض.. وبحمد الله وقاني شر هذا الأمر؛ لأنني نشأتُ على علم شرعي، وفطرة سليمة تُعَلِّق كل الأحوال بِمُسَبِّب الأسباب جل جلاله، وتضرع إلى الله بالدعاء؛ فلا يكون في روحه عقلاً ووجداناً فراغٌ لأحلام اليقظة.. وإما -وذلك هو الأمر الرابع الأخير- أن يكون مِقْداماً بشجاعةٍ فكرية علمية ثقافية، ولا يُبالي (إن تلعثم في النطق بأعلام أو مصطلحات خواجية لم يجعلها الله يسيرةً على مخارج حروف لغته الأم) بشماتةِ مُتَفَرِْجٍ حاوٍ ليس عنده إلا التعالي والتمنْطُق بلغة خواجية لم تُوَصِّلْهُ إلى هضم معارف تلك الأمة الخواجية، بل يتحدث بها في الحياة اليومية العادية في المطعم والصيدلية والطائرة إن كان طاقَمُها خواجياً.. والطاقَم كلمة خواجية عَرَف معناها خاصةُ العرب وعامَّتُهم، وهي سهلة النطق من حيث المخارج؛ ولهذا أدرجها مجمع اللغة العربية بمصر في متون اللغة العربية، ونِعْم ما فعلوا؛ لأن العرب أخذوها اقتراضاً على الرُّغم من أن اجتماع الطاء المهملة والقاف -وما يقرب من مخرجيهما كالفاء والجيم- مع الميم لا يوجد في كلمة ألبتة في لغتنا، وقلَّما جاءت القاف تالية الطاء وإن كان الأخيرُ غيرَ حرف الميم.. ومعناها المُقْترَض مجموعة متكاملة من الأشخاص والأدوات تؤدِّي أعمالاً خاصة كخدمة رُكَّاب الطائرة، ثم توسَّعوا بها إلى ما كان على مثال واحد كمجموعة أقلام على مثال واحد، وكالتحلي بلباسٍ يماثل بعضه بعضاً، ولهذا التوسُّعِ أصالته؛ لأنك لا تُسمِّي فريق العمل طاقماً إلا بشرط هيئة واحدة كشكل اللباس مثلاً.
مشاركة :