مر أحمد بهاء الدين في الصحافة العربية بلا حروب أو معارك أو خصومات إلا من جانب واحد: الجانب الآخر. من جانبه هو، كانت هناك أشعة المودة والكرامة والثقافة والذكاء. تعالى على الصغارات في المهنة وفي الحياة. ومنذ اليوم الأول في الصحافة سكن في الطابق الأعلى. جاء إلى مكتب «روز اليوسف» ومعه مقال تركه عند البواب. وقرأ إحسان عبد القدوس المقال ونشره مكان مقاله، وطلب من صاحبه الحضور. ولما جاء، كانت تلك أول علاقة بالصحافة وآخر علاقة بالمحاماة. ارتفعت المهنة بانضمام بهاء، صناعة وصياغة وثقافة وخلقًا. وكانت أهم معالم الرقي في معاملة رفاقه وزملائه المبتدئين. لم يبنِ برجًا عاجيًا، بل ظل حصن الكتّاب والمحررين، يعطي كل واحد منهم نصائح تصلح لمدى الحياة. ولم يتوقف طويلاً عند رئاسة تحرير «الأهرام»، فمكانه الطبيعي والأكثر إشراقًا كان في قلمه. وفي سنوات الصخب ترك القاهرة إلى «العربي» في الكويت، حيث صديقه ورفيقه عبد المحسن القطان. كنت قد بدأت حديثًا العمل في «الأنباء»، وذات يوم اتصل بي على المنزل ليقول: ما الذي يحدث لهذا العالم؟ لم يكن زمن الفضاء قد بدأ بعد. أكمل يقول: «مش تروح المكتب، السادات قُتل». كان بهاء قد اختلف مع السادات حول كامب ديفيد، لكنه ظل يكتب خطبه. وكان قلقًا على مصر، لكنه كان يخاف عليها أكثر من العنف وبروز الانحطاط. وعندما جاء مبارك رأى فيه رجلاً يشبه مصر. وحاول غير مرة أن يقنعني بالسفر إلى القاهرة لإجراء مقابلة مع الرئيس الجديد، وغير مرة كنت أقول له: المقابلة مع رئيس مصر في هذه الظروف، أكبر مني. كان من الرقة والرقي بحيث لا يصر ولا يشدد ولا يعاتب، وعندما عاد إلى القاهرة صار هو السبب الوحيد لزيارة المدينة، ثم عندما غاب مبكرًا، أصبح الاحتفال بذكراه، السبب الأول للرحلة. كان أرقى دليل إلى أرقى الناس في طيبي مصر. وكانت البيوت العريقة تفتح له كما تفتح لأمناء السر. الجميع يريد أن يصغي إليه، وأن يطلب مشورته. وبالنسبة إلى أصدقاء بهاء، لم تعد القاهرة بعده كما كانت في غنى وبهاء حضوره. ولم تعد زيارتها رحلة سنوية. نحن، كان أهرامنا، ذلك الأجعد الشعر المرسل الابتسامة، الذي يشبه مصر عند التقاء النيلين، نيلها ونيل العرب. وإذا كان حسن الختام مسكًا، فإن بهاء كان مسك المهنة. ومعه أختم هذه السلسلة.
مشاركة :