ترى ما الذي رآه الكاتب المسرحي الألماني الكبير برتولد بريخت في العمل المسرحي/ الموسيقي الذي لفتت انتباهه إليه زميلته إليزابيت هاوبتمان، فقرر أن يحدّثه ويعصرنه وينقله من الإنكليزية إلى الألمانية، جاعلاً منه واحداً من أعماله المسرحية الكبيرة تحت عنوان «أوبرا القروش الثلاثة». الحقيقة أن بريخت سوف يتحدث في مذكراته طويلاً عن هذه المسرحية وسيتحدث أكثر عن أنه هو نفسه فوجئ بالنجاح الكبير الذي حققته حين عرضها المسرح البرليني في آب (أغسطس) 1928، مع موسيقى خاصة وضعها لها كورت فايل. لكن بريخت سيتحدث أقل عن كون هذه المسرحية نفسها، كانت حققت نجاحاً مماثلاً، حين قُدّمت في أصلها الإنكليزي للمرة الأولى، أيضاً، قبل ذلك بمئتي عام بالتمام والكمال. يومذاك كان عنوانها «أوبرا المعدمين»، وهي إذ قدمت يوم ذاك على خشبة مسرح «لنكولن انزفيلد» في العام 1728، قلبت مؤلفها جون غاي، بين ليلة وضحاها، من كاتب فقير معدم كثير الديون، إلى مؤلف ثري. لكنها في الوقت نفسه حوّلته إلى كاتب مغضوب عليه من جانب السلطات الرسمية، ولا سيما من جانب الوزير الأول روبرت والبول، الذي اشتهر بالثراء الفاحش الذي حققه بفضل صفقات غامضة أوصلته إلى أعلى درجات الجاه والثراء، كما اشتهر بعبارته التي كانت تقول: «إن لكل إنسان ثمناً، فقل لي ما هو ثمنك؟». والحال أن والبول كان على حق إذ غضب على «أوبرا المعدمين» وعلى مؤلفها جان غاي، لأن هذا العمل - الذي يعتبر فنياً، المؤسس الحقيقي لفن الكوميديا الموسيقية - كان عملاً لئيماً غايته أن يفضح «الأساليب التي حقق بها الأثرياء الجدد ثرواتهم، ومكنتهم من أن يعيشوا في وئام وانسجام مع الطبقة الأرستقراطية التي كان لديها كل شيء سوى المال، فجاءها الأثرياء الجدد بالمال». صحيح أن هذه الفكرة أصلاً- أي فكرة أن تصعد طبقة من اللصوص وأهل القاع بفضل ما جنته من أموال لتصبح من «أهل القمة» وتشتري من الأرستقراطية مكانة اجتماعية لا تستحقها -، نغّصت على تلك الأرستقراطية عيشها، لكنها اضطرت إلى التماشي معها. وكان ذلكم هو الوضع الاجتماعي الذي كان بدأ يسود في إنكلترا المطلة على العصر الصناعي في ذلك الحين، والذي أراد الكاتب جون غاي فضحه، من خلال كتابته تلك المسرحية. ويقول لنا التاريخ أن الجمهور تجاوب، وأنه تجاوب لأنه كان يرى الفضائح المالية من حوله. وكان يشاهد طبقات تنهار وأخرى تصعد بفضل المال والرشاوى والسرقات، في زمن كان غريباً، حقاً، في زمن كان فيه ذلك الجمهور المنتمي إلى الذين عُرفوا بأن «لا صوت لهم» غير قادرين على أكثر من الرصد والاحتجاج الصامت، فيتكلون بالتالي على الفنون والأدب للتعبير عن آرائهم. غير أن غاي، الذي سدّد سهام نقده وسخريته على ذلك النحو إلى الأثرياء الجدد والسياسيين، لم يفته في طريقه أن يسدد السهام نفسها إلى الفنانين والمثقفين الذين لم يتورعوا عن وضع أعمالهم في خدمة الطبقة الجديدة، مدلسين على الجمهور، خادعينه ومصورين له أنه يعيش في أحسن العوالم الممكنة. > لقد كانت رغبة جون غاي، أن يقول إن الواقع عكس هذا تماماً وإن بلاده لم تكن، في ذلك الحين، تعيش في أحسن العوالم الممكنة. ولهذا اختار أن تجري أحداث «أوبرا المعدمين» في العالم السفلي اللندني. لكنه اختار أيضاً - وقبل بريخت بقرنين - أن يلجأ إلى أسلوب التغريب، حيث تبدأ المسرحية قبل فتح الستارة، بكاتبها المفترض يشرح للجمهور حبكتها وكيف أنه كتبها لأنه معدم فقير، وهو ما كانه جون غراي في ذلك الحين بالتأكيد. ومن هنا لم يكن من قبيل المصادفة أن تكون شخصيات «أوبرا المعدمين» شبيهة بخالقها: لصوصاً وأفاقين ومحدثي الثراء، ونصابين ونساء ساقطات. لأننا فقط، في رأي غراي وأمثاله من كتاب زمنه الغاضبين، عبر سكان العالم السفلي هؤلاء كان في الإمكان أن يرصدوا انهيار القيم الأخلاقية على مذبح المال وأثريائه، في زمن بت تقاس فيه بـ «كم تملك؟» لا «بمن أنت؟». إننا هنا حقاً أمام ولادة الزمن الجديد. وهذا الزمن الجديد، في الأوبرا داخل الأوبرا، يمثله السيد بيتشام الذي تخصص تقريباً في تصريف ما يجنيه اللصوص من سرقاتهم. بيتشام يحقق ثروته إذاً، وهو رجل السلطة، من خلال خداعه لطرفي المعادلة: أهل القانون والخارجين على القانون سواء بسواء. ومن بين هؤلاء الأخيرين اللص ماكهيت الذي يتزوج بولي ابنة بيتشام التي أغرمت به. ولكن لأن بيتشام اعتاد على الخداع، ها نحن نراه يحاول تطبيق ابنته كي تغدر بزوجها الحبيب لما فيه مصلحته كأب وتاجر ولص. لكن بولي ترفض، بل تخبر حبيبها ماكهيت بما يدبره أبوها ضده. وماكهيت هرباً من مؤامرة بيتشام ينطوي من جديد على عالمه السفلي، حتى يجد نفسه أخيراً في سجن نيوغيت، وسط أمثاله من اللصوص والقوّادين والعاهرات. وهناك أيضاً في ذلك السجن يلتقي الحسناء لوسي ابنة السجان، التي كانت ذات يوم عشيقة له. وهنا، في مقابل وعد هذا الأخير لها بالزواج، تقوم لوسي بسرقة مفتاح السجن لكي يهرب حبيبها القديم - الجديد. ولكن ها هنا تبادر امرأة أخرى إلى الخيانة من جديد. ويحدث ذلك في وقت خشيت فيه لوسي أن يعود ماكهيت إلى بولي، فتحاول أن تقتل هذه الأخيرة بالسم. ولكن من جديد يُقبض على ماكهيت بالتعاون بين بيتشام ولوكيت والد لوسي، ويحكم عليه هذه المرة بالإعدام. فتسارع بولي ولوسي طالبتين له المغفرة. وإذ يكاد يحصل عليها تأتي نساء كثيرات تزعم كل منهن أن ماكهيت غدر بها. وينتهي الأمر بالشروع في إعدامه. وهذه المرة يكاد يعدم بالفعل وسط نحيب النساء. ولكن هنا وسط هذا الضجيج ينهض واحد من الممثلين ويحتج على نهاية كهذه غير مألوفة في عالم الكوميديا الموسيقية. ما العمل؟ حسناً، الحل ليس صعباً. يتم العفو استثنائياً عن ماكهيت، ويقوم الجميع برقصة ختامية على وقع أغنية تقول «في هذا النوع من الدراما، لا يهم كيف تنتهي الأمور طالما أن عليها أن تنتهي نهاية سعيدة». > من الواضح أن سخرية جون غاي طاولت هنا الجميع: الفقراء والأغنياء، اللصوص والأقل لصوصية. وكذلك وجد الكاتب متنفساً له عبر السخرية أيضاً من الأوبرا الإيطالية التي كانت ذات حظوة في ذلك الحين. لكنه إذ يسخر من هذه الأوبرا، يسخر منها خصوصاً بسبب ارتباطها بذوق الطبقة الجديدة الصاعدة: طبقة لصوص المال. وجمهور المسرحية الذي شاهدها في ذلك الحين أدرك على الفور ماهية الشخصيات، فحتى أسماؤها كانت من الشفافية حيث قالت كل شيء، لكن السير روبرت والبول (الذي كان الهدف الرئيس) لم يتمكن من جون غاي إلا لاحقاً، حين وضع هذا الأخير تكملة بعنوان «بولي» كانت أكثر فضحاً، فعمد إلى منعها. ولقد أثار ذلك خلافات حتى داخل الطبقة الحاكمة، ولا سيما حين قررت دوقة كوينسبري دعم غاي إلى أبعد الحدود. فهو إذ خسر مادياً بفعل منع والبول لمسرحيته التالية، عاش وكتب لاحقاً في كنف الدوقة وزوجها حتى رحيله المفاجئ والبكر في العام 1732. > عُرف جون غاي بسخريته اللاذعة وبصداقته لألكسندر بوب وجون آربتنوت، اللذين كتبا معه بعض أعماله. لكن نجاحه الكبير اقتصر على «أوبرا المعدمين» من دون غيرها، مع أنه كتب أكثر من دزينة من مسرحيات بعضها لا يزال حياً ويُمثَّل حتى أيامنا هذه. ولد غاي العام 1685، وعرف منذ صباه الباكر كشاعر وكاتب وساخر. وهو عاش منذ العاشرة، يتيماً في كنف عم له، قبل أن يعمل في صناعة الحرير، لكنه سرعان ما ملها وانخرط في أجواء لندن البوهيمية وراح يكتب الشعر. ثم نراه يتقلب في الكثير من الوظائف، وبدأ يكتب المسرحيات التي راحت تقدم من دون نجاح، حتى كان النجاح الكبير لـ «أوبرا المعدمين» (1728) لكنه لم يعش بعدها إلا سنوات قليلة، كانت سنوات صراع صاخب قبل أن يرحل في العام 1732.
مشاركة :