مرزوق بن تنباك والبصر النافذ

  • 6/19/2016
  • 00:00
  • 99
  • 0
  • 0
news-picture

"المسارعة" إلى إصدار أنظمة تحمي الوحدة الوطنية تقطع الطريق على من يتخذون من محبة الوطن والتساوي في الشعور نحوه نافذة للمزايدة عليه لا يتساءل الكثيرون عما يحدث من أحداث ومآس في حياة المجتمعات والأقطار القريبة والبعيدة، ولا يتخذون من تساؤلاتهم –إن هم تساءلوا- علامات استدلال لتجريد الحدث إلى دلالة أعم وأشمل، تضيء لهم مسافة أبعد، سواء في فهم الحدث وتحليل أسبابه بعقلانية وواقعية، أو في استثمار ذلك الفهم لتحصين الذات بما تحتاجه من الوعي بذاتها وبما حولها. وقد لا يتمكن صوت القليلين الذين يفعلون ذلك من العلو بما يكفي لإسماع غيرهم؛ لأن الأصوات العالية تمتلك مقولات سائدة، ومن ثم تغلب عليها الرغبة في الكلام، لا الرغبة في الاستماع والفهم والاستبصار. هذا الاستبصار الذي لا يجيده إلا القليلون، هو ما وجدتُه في تغريدة الدكتور مرزوق بن تنباك، حين وقف مستشرفا لمآلات الصراع الذي يخوضه أهلنا وإخواننا في العراق الشقيق؛ فقال متسائلا: "هل شرارة العراق المشتعلة ستنطفئ في جوفه أو ستنتشر فيما حوله؟ أخشى الانتشار إن لم يدركها عزم الرجال". والتغريدة تعبير عن الإحساس بالخطورة من الوضع في العراق، الخطورة التي أجمَلَتْها التغريدة في الانتشار فيما حول العراق، أي أنها خطورة على الذات التي تندرج في ما حول العراق. وهي لن تنتشر إلا لأنها تحوي الوقود الذي ينشرها ويوسع مداها. وهذه نقطة القيمة في الاستبصار الذي تبصر به التغريدة وضع العراق؛ فهي لم تر مشكلة أهلية محدودة، وتساؤلها عن ذلك في معنى النفي لمحدودية الشرارة المشتعلة –فيما تصفها- على العراق. هكذا تتساءل التغريدة عما يحدث في العراق، وتتخذ من تساؤلها علامة استدلال تتجرَّد بها أحداث العراق إلى دلالة أعم وأشمل، تُجَاوز الفهم لما يحدث في العراق، إلى الخشية على الذات. وبذلك يغدو التساؤل عن أحداث العراق، تساؤلاً عما يحصِّن الذات ويحميها؛ أي مساءلة لها. وإذا أردنا أن نترجم دلالة "شرارة العراق المشتعلة" إلى مدلول محدّد نستبين به المعاناة الفعلية التي يشتعل بها العراق، فلن نختلف –فيما أحسب- في تحديد "الإرهاب" و"الطائفية" مدلولاً لتلك المعاناة. وهما وجهان لا يقبلان الانفصال بأي حال؛ ذلك أنهما يجتمعان في تصور زائف للعلاقة بالدين ينفي أي إمكانية للتعايش والتساوي مع المختلف مذهبياً وإيديولوجياً، ويحتشد ضده بالكراهية والشيطنة والتكفير واستباحة الكرامة والدم. فليس هناك إرهابي بلا فكر طائفي معبّأ بتجريم كل الناس إلا الجماعة الإرهابية التي ينتمي إليها، وليس هناك طائفي لا تصل به الكراهية الطائفية إلى الوقيعة في العرض والدم. ولا بد –ما دام الأمر كذلك- أن يلتبس علينا السبب والنتيجة في هذا التداخل؛ فهل نتج الإرهاب عن الطائفية أم نتجت الطائفية عن الإرهاب؟! المهم أنهما لا ينفصلان، وأن الدمار الذي ينتج عنهما على مستوى السِّلم الأهلي والتعايش المذهبي يصعب إصلاحه. وبالطبع لا يمكن أن يصل بلد من البلدان إلى دمار في سلمه الأهلي وعلاقة مكوناته المختلفة من دون خلل في تكوينه السياسي. والخلل السياسي في العراق ماثل في التصارع على الحصص السياسية من منطلق مذهبي، وهو خلل سارعت إيران إلى استغلاله حتى أصبح نفوذها في العراق عامل قلق متزايد بالمعنى المذهبي، وأصبح نفوذها وقوداً سخياً للمشكل الطائفي. ولهذا يصبح التساؤل عن انطفاء "شرارة العراق المشتعلة" تساؤلاً نافياً؛ فهي لن تنطفئ إذا لم يتوقف إمدادها بالوقود، وإذا لم تنطفئ فإنها ستنتشر في ما حول العراق. ولا خلاف عراقياً –كما هو واضح- على مشروعية الحرب على الإرهاب، وضرورة اقتلاع داعش من جذوره، لكن الإرهاب من تلك الوجهة الطائفية أصبح دلالة "مذهبية" تصِم مكوِّناً عراقياً عريضاً بكامله، وهذا وجه ماكر من وجوه الرغبة في الامتداد بشرارة العراق المشتعلة إلى ما حوله، وحصاد مكاسب الحرب على الإرهاب في سلَّة الطائفية، لا في سلَّة الوطن العراقي بمكوناته كلها من دون تمييز. إن الخشية التي تعلنها التغريدة من انتشار شرارة العراق المشتعلة، في ما حوله، تعني هذا الوجه الماكر من الرغبة الدفينة في الصدام: الوجه الذي يقتضي أن تكون الخشية منه دلالة على الحذر وضرورة الانتباه وأخذ الحيطة. والتغريدة لذلك أدل على الرغبة في السلم منها في الصدام، وأمعن في التحوط منها في المغامرة، وأكثر تبصراً عقلياً منها انقياداً للعاطفة. وليس شيء من هذه الدلالات في حساب الطائفيين والمتطرفين بأي معنى، فهم أكثر جيَشَاناً ومقامرة وهوى وغفلة عن حساب الخطر وتفريطاً في المستقبل. والحذر الذي تعنيه التغريدة هو ما تكتنزه جملة "إن لم يدركها عزم الرجال" التي تَخْتم خطابها. وأنا لا أفهم ما تعنيه هذه الجملة إلا بالقصد إلى صيانة المملكة ضد النعرات الطائفية وما في معناها من العنصريات المناطقية والقبلية والعائلية والإيديولوجية والذكورية ونحوها، مما يضعف العلاقة بين المكونات الوطنية ويتيح اختزان شعور بالكراهية، أو إحساس بالغبن عند هذا المكون أو ذاك. وهذا يقتضي المسارعة إلى إصدار أنظمة تصون وحدة الوطن وتفرض المحبة والعدالة والمساواة بين كافة مكوناته، وتجرِّم كل تمييز أو انتقاص أو كراهية، بالفعل أو بالتحريض. و"المسارعة" هنا كلمة مفتاحية، إذا عرفنا أن فكرة "أنظمة" بالصفة المذكورة أعلاه، ما زالت لدينا في طور الجدل، وكانت بالفعل عرضة لإحباط فاجع، حين أسقط مجلس الشورى بالتصويت في جلسته المنعقدة في 29/8/1436، توصية لجنته للشؤون الإسلامية والقضائية التي رأت ملاءمة عدد من المشروعات لنظام الوحدة الوطنية، وطلبت من المجلس فقط "أن يمنح الموضوع حقه من الدراسة". بل زاد الأمر على إسقاط التوصية، بكثير من الشحن في وسائل التواصل تجاهها، والطعن فيها بمرامي تكرِّس التمييز وتمعن في تغذية الشعور الطائفي. ولذلك فإن "المسارعة" إلى إصدار أنظمة تحمي الوحدة الوطنية تقطع الطريق على من يتخذون من محبة الوطن والتساوي في الشعور نحوه نافذة للمزايدة عليه. وبهذه المناسبة ينبغي أن نحيِّي أعضاء مجلس الشورى الدكتورة لطيفة الشعلان، والدكتور عبدالله الفيفي، والدكتورة هيا المنيع الذين تقدموا للمجلس بمشروع نظام تحت اسم "نظام مكافحة التمييز وبث الكراهية" وستكون الموافقة عليه اختباراً حقيقياً بالفعل لرغبة أعضاء المجلس في الإجهاز على خطاب التمييز ومحاصرة مريديه.

مشاركة :