كانت «الأيام» أول صحف السودان، الذي كان يومها يعيش مرحلة من الهدوء بعد عاصفة. وكان رئيس تحريرها رجلاً محترمًا، ولا ضرورة للقول: طيب السريرة، فلم ألتقِ سودانيا لا تنطبق عليه هذه الصفة. وأكثر ما أذكر عنه أنه كان يشبه إلى حدّ بعيد رئيس الوزراء السابق وشاعر السودان محمد أحمد محجوب: في سمنته المعتدلة، وابتسامته الدائمة، وطلاقته في الحديث بكل شجاعة. لكنه لم يكن واثقًا بالمستقبل، خائفًا من التحاق السودان بالركب العسكري في العالم العربي وأفريقيا معًا. وعندما سألته ممازحًا إن كان يعتبر السودان عربيًا أكثر أم أفريقيًا، أجاب بكل جدية: إنه أكثر سودانية. كانت الإقامة في الخرطوم قصيرة ولطيفة. فنحن في انتظار موعد الرحلة التالية لأن الرحلات لم تكن يومية آنذاك. بقيت لي من «العاصمة المثلثة»، أم درمان، والخرطوم، والخرطوم بحري، ثلاث ذكريات. ولا بد أن أوضح للمشارقة، أن بحري في مصر والسودان من بحر. والبحر ليس المتوسط، ولا الأحمر، بل أهم بكثير.. النيل. الذكرى الأولى كانت زيارة «دار الأيام» التي لم يكن قد مضى على تأسيسها سوى عام واحد في بلد بدأت صحافته أول يوم في القرن. الذكرى الثانية زيارة سفير الكويت مع «العميد» أبو يوسف. كل شيء كان حديثًا يومها: «دار الرأي العام»، وسفارات الكويت في الخارج، وصحيفة «الأيام»، والخرطوم التي لا تزال كثير من بيوتها من الطوب، وكثير من طرقها من التراب. نادى السفير الكويتي بعض عمال الحديقة بأسماء غريبة. وشرح لنا، يثيره الفضول والسلوى، أن أهل الجنوب يزحفون على العاصمة وهم بعد بلا أسماء. ثم يكتشفون في العاصمة أن لا بد من اسم علم يعرفون وينادون به، فيختارون لأنفسهم الاسم الذي يحبون. الذكرى الثالثة كانت من أجمل مشاهد العمر الانطباعية: منطقة «الغابة»، حيث يلتقي النيل الأبيض والأزرق. يقال لي إن المكان أصبح نقطة سياحية الآن. أنا عرفته يوم كان من صنع الله. وفي هذا، أنا مع فلاسفة الصين الذين يعترضون على الحدائق لأنها تشويه، لا إبداعات الخلق.
مشاركة :