هوامش الأسفار ولطائف الأخبار: «رنة الهاتف في الطائف»

  • 8/5/2016
  • 00:00
  • 25
  • 0
  • 0
news-picture

من أجل المقابلة الثانية مع الملك فيصل بن عبد العزيز، رحمه الله، كان الموعد مرة أخرى في الطائف، مصيف الحكم وعدد من رجال الإدارة. وكانت الطائف لا تزال مدينة صغيرة، هادئة، كمثل اسم تلتها الجميلة، الهدا. تموج فيها الحركة قليلاً في النهار، ثم يخيم عليها هدوء القرى في المساء. وكان بعض رجال الملك وضيوفه يقطنون في فندق صغير يدعى العزيزية، على اسم سيد الجزيرة، الذي وافته المنية وهو في الجبل الملوّن. كان «العزيزية» من دورين، لا بهو فيه، ولكن على مدخله نوع من رواق صغير، لمن يشاء تزجية الوقت. ومن قاطنيه يومها السيد أحمد عبد الوهاب، وزير التشريفات الملكية، والدكتور معروف الدواليبي، المستشار ورئيس وزراء سوريا السابق، والشاعر كنعان الخطيب، من مستشاري الملك وعصارات الثقافة والدماثة العربية. وكنت أتمتع بمجالسة كنعان الخطيب إلى أن يحين موعد العشاء عند الملك، فينضم هو إليه. ومعروف أن مائدة الملك عندما لا تكون رسمية، فهي مثل كل شيء آخر، جزء من تقشفه. كنتَ تدخل إلى مكتبه كأنك تدخل إلى دائرة رسمية متوسطة. قصر أبيض بسيط، خالٍ تقريبًا من مظاهر الحراسة، ويخيم عليه هدوء أشبه بالصمت. وأما المكتب نفسه، فكان عبارة عن قاعة متوسطة أيضًا، رصينة الألوان، وفيها هاتف قديم بني اللون، يرن عند الحاجة رنة تكاد لا تسمع كي لا تؤثر على سمة المكان. والرنة لا تحدث خلال المقابلة إلا للإعلان عن قدوم عمه، الأمير عبد الله بن عبد الرحمن، فيقوم الملك إلى الباب لكي يكون في استقبال الرجل الجليل. كل شيء في المكان يسير في هدوء وتواضع. أبدأ في طرح الأسئلة سريعًا، لكي لا آخذ الكثير من وقت الملك، لكن الرجل الكبير يستمهلني في مودة صافية: لماذا العجلة. دعنا أولاً نسألك عن لبنان. ما هذا الصخب عندكم؟ لماذا يعارض صائب (سلام) بهذه الطريقة؟ ماذا يريد ريمون إده من هذه الحملة؟ ثم يقول الرجل الهادئ الكبير الجملة التي لا تنسى: «هذه الأمة مثل مبنى. وفي المبنى قاعات كثيرة. أما بلدكم فهو شرفته. يجب أن تحافظوا عليه». اعتذرْ عن أوضاعنا فيما يعطي الرجل الكبير أبعادًا كبرى لأشيائنا الصغرى. ويمضي مبحرًا في شؤون الأمة، بأدبه الجم ورؤيته العريقة، من اليمن إلى مصر إلى سوريا. ثم يتساءل: كيف يمكننا أن نخدم القضية الفلسطينية إذا التهينا عنها بالحروب المحلية؟ وبين حين وآخر يوجه الكلام إلى عمه، يطلب رأيه. ومن هذه القاعة المتوسطة في هذا المبنى البسيط في هذه البلدة الجبلية العالية، تبدو الإضاءة على العالم العربي مختلفة. كانت المصالحات لا تزال ممكنة آنذاك، والثقوب قليلة، والدماء لا تنزف غزيرة من جباه الأطفال. وكان الرجل الكبير يكرر مثل أب قلق أن باب الدماء يجب أن يُسد.

مشاركة :