لم تكن أسفاري قد تعددت بعد، إلا من تيه بسيط في أوروبا، ومن نجاوي القاهرة. لكن مما سمعت وقرأت، فإنه ما من بقعة في الأرض إلا وبلغها مهاجر لبناني، في انتظار فتح باب الهجرة إلى المريخ. لكن كينيا يومها بدت خالية من آثار أبناء البلد. وبدلاً عنهم اكتشفنا، العميد المساعيد وأنا، وجود جالية يمنية. فقرر العميد أن عليه زيارة عميدها. حاولت إقناعه بأن في كينيا أشياء أكثر إثارة من البحث فيها عن أحفاد الدولة الحميرية، لكنه كان لا يزال حزينًا على الإمام البدر، ولديه قناعة بأن اليمنيين في الخارج من الرقي بحيث لا يمكن أن يؤيدوا عبد الله السلال. كيف دبر العميد الزيارة، لا أذكر. كل ما أذكره، بضعف، أن مضيفنا كان خارج نيروبي بقليل. وما أذكره بقوة، أن داره كانت مليئة بأصدقائه، جميعهم يخزِّنون القات تخزينًا. وعلى الجدار، كانت هناك صورة ضخمة للسيد المشير عبد الله السلال. هذا الجزء من الحكاية، انتهى. الباقي عند حُسن تخمينكم. والرجاء ألا تنسوا ما أشرت إليه آنفًا، من أن العميد كان كثير الحدة، كثير المودة.. سلال؟ لم أكلف نفسي عناء البحث عن لبنانيين، ولا كان ذلك ضروريًا. كانت نيروبي قد دعت إلى الاحتفالات أحد أشهر المغنين السود، هاري بيلافونتي، ملك موسيقى «الكاليبسو»، صاحب إحدى أشهر أغاني القرن الماضي «يا جزيرتي التي في الشمس». الغريب أن العثور على مكان في حفل بيلافونتي لم يكن صعبا ولا مكلفًا. كان ذلك في إحدى قاعات فندق «غروفنر هاوس» الممتد شاليهات وحدائق على إحدى تلال المدينة. وكانت القاعة المتدرجة تضم، مثل نيروبي، أنواع الناس. وقبل أن يبدأ بيلافونتي الغناء، شاهدت رجلاً يبحث عن مقعد في ناحيتي. وكان هذا يرتدي طقمًا أسود مقلمًا لماعًا، ويضع ربطة عنق بيضاء، مثل روبرت دي نيرو في أفلام المافيا، ويشرع في الزحام سيجارًا يمر به فوق الرؤوس التي تنتظر بيلافونتي، وليس الرجل والحطبة التي يستعرضها فوق الرؤوس. أدركت، بلا شك على الإطلاق، أنه مواطن عزيز من بلاد الأرز والسيجارات الغليظة. فلما وصل قربي وهو يبحث عن مكان يتسع لهما، خاطبته «باللغا اللبنانيي» قائلاً: «شو؟ زمان وصلت؟». ومن دون أن يتردد، أجاب على الفور: «لأ. والله من شي ساعتين». ثم انتبه إلى ما يحدث، ومضى نحو مقعده من دون أن يسأل كيف عرفته. البطاقة كانت السيجار. وهذا أول لبناني ألقاه هنا. غدًا، اللبنانية.
مشاركة :