قل أزمة ولا تقل «انهيار»

  • 6/27/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

يبالغ كثيراً من يعتقد أن النتيجة السلبية للاستفتاء البريطاني على البقاء في الاتحاد الأوروبي، سوف تقوض كلياً التوجهات الاتحادية في سياقها الأوروبي، أو في سياقات إقليمية أخرى. ينبغي الاعتراف بأن هذه النتيجة لا بد أنها جرحت فكرة التكتلات الدولية فوق القومية، لا سيما أنها جرت في إطار إقليمي، كان مبدعاً فيها على صعيدي النظرية والتطبيق. غير أن الظاهر حتى الآ،ن هو أن هذا الجرح أو الإيذاء لن يؤدي إلى أفول هذه الفكرة داخل أوروبا وخارجها. بكلام آخر، نود القول إن الوقت ما زال مبكراً على الاعتقاد بأن التجربة الاتحادية الإقليمية القارية الأوروبية، ستؤول إلى السقوط. ندفع بهذا التصور، وفي الذهن أن الحرد والغضب البريطاني، الذي أصبح الآن افتراقاً أو فراقاً مع أحد منتجات هذه التجربة، لم يكن وليد لحظة الاستفتاء وما قبلها بقليل. لقد ظلت قطاعات الانفصاليين أو الانعزاليين البريطانيين من ذوي الشعارات القومية الشوفينية، تعمل جهرة ضد التيار الاتحادي، منذ لحظة التحاق لندن بالقافلة قبل أربعة عقود ونيف من السنين. كانت هذه القطاعات، ومعها جموع المرجفين المشككين في جدوى الاتحاد الأوروبي قوية داخل بريطانيا، قبل التحاق لندن بالركب وبعده.. وقد اتضح الآن، في ضوء نتيجة الاستفتاء، أن هؤلاء الأقوام تمكنوا خلال بضع السنوات الأخيرة، من التمدد أكثر، واستقطاب مزيد من الأنصار، بالنظر إلى تفاقم ظواهر ومستجدات، ألقت بظلال كالحة على مجتمعات القارة بقضها وقضيضها.. ومنها بلا جدال، أزمة الهجرة والمهاجرين، واللجوء واللاجئين من عوالم الجنوب، وتزايد نفوذ المؤسسات الاتحادية العابرة للقوميات في العواصم الأوروبية، وبروز عدم التساوي في دفع كلفة العمل الاتحادي، وارتفاع أصوات القائلين إنه لا يصح أن يستوي الذين يبذلون وينفقون، والذين يتلقون الدعم، الموصوفين بالعجز والتواكل. قرار الخروج البريطاني من الاتحاد، يمثل لحظة مؤلمة لدى الوحدويين الأوروبيين، لكنه ليس نهاية المطاف في التواصل بين القارة العجوز والشريك البريطاني الغاضب. الطلاق بين الطرفين لن يكون بائناً وإلى الأبد.. هناك دوائر وأطر إقليمية نوعية ومصلحية أخرى يتلاقى فيها الطرفان.. يقف حلف الناتو في طليعتها. وبالمناسبة، سبق أن غادرت فرنسا هذا الحلف، ثم عادت إليه. ومهما يكن من أمر، فإنه لا يجوز أن يتخذ قرار الشريك البريطاني بالذات، مبرراً لوصف تيار الأوربة بالفشل أو فقدان الثقة في سيرورته. ذلك لأن هذا الشريك كان دوماً من المؤمنين على حرف بهذه التجربة. على سبيل الاستطراد الواجب، لا يصح أيضاً التشكيك في جدوى التكتلات الإقليمية عموماً في صيانة مصالح حيوية كثيرة للمنخرطين فيها بشكل أو آخر. لقد ساهمت هذه التكتلات في منح عالمنا مفهوم النظام والتنظيم والخضوع للقانون وشرائع الأمم المتحضرة. ولا يدري أحد على وجه اليقين، أي إشكالات خطيرة، أو حتى دامية، كان يمكن لجهات وأقاليم أن تسقط في أحابيلها، في غياب مثل هذه التكتلات. هذه الملاحظة تستحضر في خاطرنا مجدداً، التجربة الأوروبية التي نحن بصدد بعض تجلياتها.. فالاتحاد الأوروبي الذي نراه اليوم فاعلاً دولياً كبيراً، وقد صوت البريطانيون بأغلبية ضئيلة للخروج من عباءته، بدأ في أصله وقام على فكرة نسج مصالح مشتركة عابرة للأطر القومية داخل القارة، واضعاف الأحانين لهذه الأطر. وقد استبطن الآباء، المؤسسون أنه بدون تعزيز هذه المصالح الاقتصادية والمالية والثقافية والأمنية... فوق القومية، فسوف تبقى القارة عرضة لرياح التنافس والاصطكاك العنيف، هبوطاً إلى هاوية الاقتتال المدمر. واليوم، لا نظن أبداً أن أولئك المؤسسين كانوا يفتقرون إلى بعد النظر. المقاربة البانورامية الشاملة، تقول إن الاستفتاء البريطاني، يعد بكل ما سبقه وصاحبه وأتبعه من جدل وسجال وتناظر، من الأحداث الفارقة في عوالم أبعد من بريطانيا وأوروبا وحدهما. ومحور الأهمية هنا، هو اختبار الفكر الوحدوي الإقليمي. ورغم غلبة خيار الانعزاليين في المثل البريطاني، إلا أن هذه النتيجة ليست الكلمة النهائية في الأمر. ومن المؤكد أن مفهوم العمل الجماعي الإقليمي بعامة، وتجربته الأوروبية بخاصة، يواجه أزمة قد تقتضي إعادة النظر والإصلاح، لكنه ليس بصدد قضية وجود وعدم، حياة أو موت..

مشاركة :