كلما سنحت لي الفرصة أن أزور عدداً من الصفحات الإسرائيلية الناطقة بالعربية، وخاصة صفحة الناطق باسم الجيش الصهيوني، أفيخاي أدرعي، للتعرّف على طريقة تفكير العدّو الصهيوني وما هي آليات الخطاب التي يستخدمها لاستقطاب شباب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلا ولاحظت وجود ردود مؤيدة من قبل شباب أمازيغ وكرد، الذين أخذتهم الحميّة ضدّ العرب، فكتبوا ضدّ الشعوب العربية مدافعين عن الاحتلال الصهيوني دون وعي بعدالة القضية الفلسطينية، وبأنّ مناصرة القضايا العادلة جزء من قضيتهم الأمّ، لأنّهم ضحايا أنظمتهم الشمولية التي اضطهدتهم وسلبتهم حقوقهم. في حرب الهوية المشتعلة كآخر الورقات التي تستعملها القوى الإمبريالية لتفتيت ما تبقى من أوطاننا، يتجنّد الكثير من النشطاء ممن ضاقت بهم سبل الحياة نتيجة الوضع الاقتصادي الكارثي الناتج عن انعدام التنمية، فيقبلون بـ"الاستزلام الخارجي" لقاء خدمات مدفوعة الأجر، أو هؤلاء الذين انتصروا لعرقهم أو دينهم دون وعي منهم بخطورة صنيعهم والذي يؤدي إلى بثّ الفرقة في مجتمعاتهم. ينطلق هؤلاء من اختلاف الأعراق والثقافات كعنصر للفرقة لا للتجميع، يساعدهم في ذلك شمولية أنظمتهم، التي تعتمد نفس الورقة، أقصد بذلك العنصرية، تحت يافطات الدين أو العرق، فيحابي النظام بذلك فئة على أخرى، والأمثلة هنا كثيرة فالتأكيد على عربية الجزائر هو ضرب هويّة جزء من الشعب الجزائري الأمازيغية والتأكيد على شيعية العراق هو استفزاز لسنته وغيرها من الدول التي لا يزال ينهشها غول الخوف من الاختلاف. من المفارقات التاريخية أن الحضارة الإسلامية في السابق لم تشهد انغلاقاً وتشدداً بنفس هذه الحدّة في واقعنا الراهن، فنجد أن اليهودي والمسيحي والفارسي والأمازيغي قد أضافوا جميعهم إلى الحضارة الإسلامية بل إنّ يهود إسبانيا أو ما كان يسمى بالأندلس قد لجأوا حالهم حال مسلمي تلك المنطقة إلى شمال إفريقيا هرباً من محاكم التفتيش الصليبية. إن الانغلاق والتعصبّ العرقي والدينيّ الذي نشهده اليوم ولّد نوعاً من الكراهية بين أبناء الشعب الواحد فترى الأمازيغي الجزائري يشتم مواطنه العربي الجزائري والشيعي البحريني أو السعودي يوجه سهامه تجاه مواطنه كما يفعل الكردي السوري أو العراقي مع مواطنيهم، فينقلبون على بعضهم دون أن يدركوا أنّ عدّوهم واحد طالما أنّ الجهل والفقر والاستبداد تركة "عادلة" من أنظمة مستبدّة يتقاسمها أفراد هذه المجتمعات بمساواة بين الأفراد بغضّ النظر عن أصلهم ودينهم ولونهم. إن اضطهاد النظام الشيعي في منطقة الشرق الأوسط، أنتج حالة "شوفينية" سنية اسمها "داعش"، لكن في الحقيقة، مجموعات الأقليات المحيطية والمنتشرة في منطقتنا لا تقل شوفينية أو إجراماً عنها، بل الغريب أن تظهر عندنا مجموعات تدعي العلمانية والليبرالية وتبني طموحاتها على إقصاء الآخر وإلغائه بسبب شوفينيته وطائفيته، مما يخرجها في المطاف من دائرة العلمانية والليبرالية ويحولها إلى طائفة جديدة تمارس نفس السلوك الإقصائي الإجرامي. إنّ هذه الأوطان يمكن أن تتسع لجميع أبنائها، إن كانت أنظمتها ترتكز أساساً على مفهوم المواطنة والديمقراطية والتعايش السلمي، كما هو الأمر في دول الغرب التي تقاسم الهندي والصيني والعربي والإفريقي جنسية تلك الدول مع الأوروبيين تحت سقف القانون الذي يضمن حقوقهم وواجباتهم، فلم تفرقهم لون البشرة، واختلاف المعتقد، والعادات والتقاليد، فالتفوا جميعاً حول راية الوطن الواحد رغم اختلافهم العرقي والديني ولكنهم توحدّوا بالحبّ الذي في قلوبهم تجاهه. في هذا السياق، نتساءل لماذا تغيب النزعة الوطنية عن بعض شبابنا على عكس شباب الدول الغربية؟ والإجابة "لأنّ هذه الأوطان لم تمنحهم الحرية والمواطنة والعدالة الاجتماعية". إن الأنظمة العلمانية التي آمنت بالإنسان قبل الدين واللون والعرق والجنس نجحت في استيعاب الاختلاف والتنوّع وتقديمه كعنصر إيجابيّ للتجميع ولعل حكومة كندا الأخيرة التي ضمت وجوه المجتمع الكندي المتنوّع الأعراق والأديان مثالاً على نجاح مجتمعات الغرب في تأصيل الاختلاف و"مأسسته" إن صحّ التعبير، فأصبحوا مواطنين من الدرجة الأولى، لا مواطنين لم يبلغوا الدرجة الصفر من المواطنة كما هو الحال في مجتمعاتنا. إنّ حربنا المشتعلة هذه بهدوء، بتواطؤ الحاكم في مجتمعات الجنوب عن وعي أو عن غير وعي، لا تقلّ خطراً عن حرب السلاح، هنا من الضروري أن نعلم الناشئة سيرة "روزا باكس" و"نيلسون مانديلا" و"مارتين لوثر كينغ" وغيرهم من أعلام الحرية في العالم، الذين ناضلوا من أجل الحقوق المدنية والمواطنة من أجل الجميع، حتى لا تأكلنا نيران الطائفية الجديدة التي تعطلّ مسيرة الحرية وتؤبّد الاستبداد بتعلّة أن هذه الشعوب غير جاهزة للحرية والديمقراطية وهو ما يؤبد جهل الأمازيغي والكردي والعربي والسنيّ والشيعيّ لفترات طويلة طالما أنّهم لم ينتبهوا أنّ عدوّهم واحد ووطنهم واحد أيضاً. لقد عاش الغرب في القرون الماضية نفس الصراع ونفس الحروب الدموية، لكنه نجح في تجاوزها، والغريب أنّه استلهم التجربة الإسلامية وتراثها الفكري ليبني عليه نظرياته الحداثية كما استلهم مؤسسو الدولة الإسلامية الأولى أيام الخلافة الراشدة من تجارب اليونان وفارس، ليبنوا حضارتهم لكنّ حداثييّ اليوم لم يفهموا تجربة الغرب حالهم حال السلفيين الذين لم يفهموا تجربة السلف الصالح؛ ليتمسك طرفا النزاع عندنا بقوالب فكرية جامدة ضمن واقع متحول ومتغير دون أن يبنوا تجربتهم الذاتية أو قواعد التعايش بينهم. ملحوظة: نُشر هذا المقال بموقع ألترا صوت. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :