إن المرأة البدوية، يقول د. الوردي، تبقى محتفظة بامتيازاتها عند انتقالها مع قبيلتها إلى العراق، وهي تظل كذلك ما دامت القبيلة باقية في طور الترحل والبداوة. ولا تكاد القبيلة تحترف الزراعة حتى يتغير فيها وضع المرأة. فالمرأة عندئذ تهبط فيها منزلتها الاجتماعية هبوطا فظيعا، وهي تبدأ بفقدان الامتيازات التي كانت لها من قبل. وكلما توغلت القبيلة في طريق التحضر، فأخذت تربي الجاموس، أو تزرع الخضراوات، ازدادت منزلة المرأة فيها هبوطا، حتى نراها في منطقة الأهوار تعامل كالحيوان أو الرقيق وتستغل اقتصاديا إلى أقصى حد وتعرض للبيع والشراء باسم الزواج. وتقول الباحثة صبيحة الشيخ داوود، كما يقتبس عنها د. الوردي، إن المرأة العراقية الريفية تعمل دائبة تحت ظروف قاسية لا يحتملها الرجل نفسه. وبالإضافة إلى عملها المضني في الحقل، يرسلها الرجل إلى الأسواق لبيع المنتجات اللبنية والخضراوات. فالرجل يستنكف أن يبيع الخضر بنفسه في الأسواق، إذ هو لا يحب أن يكون بقالاً، وهو لذلك كان يرسل المرأة إلى الأسواق بدلا منه. وكان الزواج الريفي في عراق تلك المرحلة لا يخلو من معنى البيع أو المقايضة أو ما أشبه. إذ كان الحق الأول في زواج المرأة الريفية هو لابن عمها. إلا أن الأب الفقير، يقول د. الوردي، كان يفضل أن يزوج ابنته لرجل غريب لكي يحصل منه على مبلغ من المال ينفعه. وقد جرت العادة أن يستحوذ الأب على ثلثي مهر ابنته، أو على المهر كله، وهو قد يساوم على زيادة المهر، ثم يعطي ابنته لمن يدفع فيها مبلغا أكبر. إنه يشعر بأنه يخسر خسارة مادية عندما يزوج ابنته، لأنها كانت تعمل له قبل زواجها. وقد يتفق رجلان على أن يتزوج كل منهما أخت الآخر من غير مهر. وقد تقدم المرأة الريفية في بعض الأحيان كجزء من التعويض في حل الخلافات أو الفصول العشائرية. فقد تتفق قبيلتان متعاديتان على صلح يتضمن تقديم عدد من النساء أو الحيوانات أو مبالغ من المال، على سبيل التعويض عن الخسائر في الارواح والاموال التي مُنيت بها إحدى القبيلتين. ويروي الشاعر معروف الرصافي أنه شهد في مدينة على الغربي بجنوب العراق عام 1928، قضية عشائرية خلاصتها أن رجلاً ريفيًا تحرّش بامرأة وراودها عن نفسها، فحكم عليه بأن يعطي أخته بلا مهر إلى أخ المرأة. وهكذا نجد ان المرأة العراقية قد خسرت قدرًا كبيرًا من الحقوق والحريات والمكانة في الريف والحياة الزراعية مقارنة بحياة المرأة في البادية، الا ان المرأة في البادية والريف ظلت سافرة الوجه في وسط يتساهل بدرجات متفاوتة مع بعض اشكال الاختلاط بين الجنسين. ولكن ماذا عن وضع نساء المدن في العراق؟ يقول د. الوردي إن وضع المرأة اختلف من مدينة إلى أخرى حسب اختلاف ظروف المدينة ومبلغ سيطرة المد البدوي عليها. ففي المدن الصغيرة التي لها اتصال وثيق بالقبائل المجاورة، نجد وضع المرأة يشبه وضع المرأة الريفية من وجوه كثيرة، فهي تسفر عن وجهها، وتشارك الرجال في بعض أعمالهم وتخالطهم وتتحدث إليهم، كما تفعل المرأة الريفية. والملاحظ في الوقت نفسه أن عادة غسل العار شائعة في هذه المدن كشيوعها في القبائل الريفية تقريبًا. فإذا نمت المدينة واتسعت أسواقها وكثر تردد الغرباء عليها، أخذ الحجاب، بمعنى تغطية الوجه، ينتشر بين نسائها تدريجيًا، فإذا صارت المدينة مركزًا تجاريًا كبيرًا، كما هو الحال في بغداد والبصرة والموصل، رأينا الحجاب يشتد فيها لدرجة مفرطة، فهناك تقاس عفة المرأة بمقدار تشددها في التستر واعتكافها في البيت. فإذا أراد الناس وصف فتاة عفيفة قالوا عنها إنها بنت بيت، لم يرَ أحد إصبعًا منها ولم يسمع لها صوتًا. وكانوا يقولون: إن للمرأة حقًا في الخروج من دارها مرتين طول عمرها، المرة الأولى عندما تزف إلى زوجها فتذهب من دار أهلها إلى داره، والمرة الثانية عندما تموت فتخرج جنازتها من البيت إلى القبر.
مشاركة :