يتواصل البشر بينهم وبين بعض من خلال لغتين مختلفتين تماماً، رغم اتفاقهما في المعاني والدلالات اللتين ترسلانها، وهما لغة الكلام اللفظية المنطوقة، وهي الأصوات، من أجل تبادل المعلومات، والتعرف إلى حقائق ومسميات الأشياء، ولغة الجسد، وهي التي يستخدمها البشر بأجسادهم، لا شعورياً، وهي الأبلغ في التعبير عما بداخل الإنسان من انفعالات، كما أنها المحددة للعلاقات المتبادلة بين البشر، وتعدّ ظاهرة تكشف عن قوة التواصل فيما بينهم، وأيضا بينهم وبين الكائنات الأخرى في الكون، وهي لغة تعتمد على مخزون من الخبرات والتصورات والذكريات والتجارب التي يتلقاها الإنسان عن طريق حواسه، واستجابته لكل المثيرات التي تتحدد عن طريق إدراكه ووعيه، ذلك الوعي الذي يمكن أن يتجاوز الحواس نفسها ليتحول إلى مظاهر ثقافية اجتماعية يتفق عليها أفراد المجتمع. وقد شغل الجسد الإنساني اهتمام كل المعتقدات الدينية والحضارات والثقافات، بما له من تعبيرية كلغة تواصل بين البشر، تكون مفردات هذه اللغة دلالات ورموزاً لا حصر لها، وظهر ذلك واضحاً في الرقصات البدائية والطقوس الدينية الأولى، وفي فنون الرسم، وغيرها من الفنون التي توسل بها الإنسان الأول ليحاكي الطبيعة، عندما كانت حركة تلك الطبيعة بإيقاعها المتغير، مؤثرة في إبداع صورة متعددة للتعبير بلغة الجسد، حينما اتخذها الإنسان الأول كوسيلة يعبّر بها عن طموحاته وآلامه وآماله ومخاوفه، فوجد نفسه يحاكي كل شيء في حياته مستخدماً جسده بطاقته التعبيرية اللانهائية في بناء الدلالات والمعاني التي يرسلها للآخرين. ويشير مدحت الكاشف في كتابه اللغة الجسدية للممثل إلى أن الدراسات التي تتناول فن الأداء التمثيلي نوعان رئيسيان يتمثل النوع الأول في الدراسات التي تبحث في تاريخ التمثيل، جذوره والمشكلات العلمية والعملية التي واكبت ظهوره وتطوره، وفي هذا النوع يعتمد الباحث على الرصد التاريخي، والتحليل وفق ما يتوافر له من وثائق وكتابات المؤرخين والمنظرين لفن المسرح، فضلاً على شهادات أصحاب التجارب المسرحية أنفسهم. أما النوع الثاني من الدراسات، فهي تلك التي تتعرض لجماليات فن الممثل، ويعتمد الباحث فيها على دراسة طبيعة عمل الممثل من منظور تحليلي، استناداً إلى علوم أخرى يستخدمها كأدوات منهجية تحليلية مثل الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم دراسة الإنسان وعلم الجمال وعلم الدلالة وغيرها من العلوم. وتقف هذه الدراسة التي تتناول دلالات اللغة الجسدية للممثل في الملتقى بين الطريقين (التاريخي والجمالي) مركزة على بعد واحد من أبعاد فن الأداء التمثيلي، وهو البعد الجسدي بوصفه مسؤولاً أولياً عن التعبير عن المعاني والدلالات في العرض المسرحي إلى جانب عناصر أخرى، بعضها يرتبط بالممثل نفسه من حركة، وإيماء وكلمة ونغمة وماكياج وملابس، والبعض الآخر يكون خارجه مثل الإكسسوار والمناظر والإضاءة، هذا فضلاً على المتلقي باعتباره عنصراً أساسياً في العرض المسرحي، حيث يشارك بدوره في بناء وتوليد الدلالات والمعاني التي يبثها العرض في سياقه العام. ويعتبر جسد الممثل ولغته التعبيرية الدالة موضوعاً مهماً من موضوعات الدراسات العلمية التي تدور حول فن الممثل من ناحية، كما يتخذ مكانة واسعة النطاق في دراسات علم الدلالة من ناحية أخرى، وهو ما يدفع إلى ضرورة التعرض للكيفية التي استفادت بها تقنيات مدارس التمثيل ونظرياته وأساليبه المختلفة من هذا العلم وغيره من العلوم الإنسانية الحديثة، مستندة عليها كمرجعيات في النظر إلى الإنسان/ الممثل، قبل أن يتحول تعبيره إلى تعبير مرئي على خشبة المسرح. يركز هذا الكتاب تحليله على اختبار المحاولات المسرحية الحديثة والمعاصرة التي بذلت لتصنيف اللغة الجسدية للممثل بوصفها علامة من علامات العرض المسرحي، وذلك من خلال العرض والتحليل لنماذج متباينة يحكم كلاً منها أسلوب التناول لجسد الممثل، وذلك للتعرف إلى الإمكانات الفعلية له، ولغته التعبيرية الدالة، وتحليل أهم العناصر المكونة للتدريبات العملية التي تهدف إلى تهيئة جسد الممثل للقيام بمهمة بناء الدلالات، من هنا يسعى الكتاب إلى محاولة تقصي دور التقنية في استغلال هذا الجسد المعبر أساساً بالفطرة، ليكون معداً للتعبير على خشبة المسرح.
مشاركة :