تكمن جذور فشل الانقلاب في تركيا، أخيراً، في التوفيق غير المريح بين العسكر من ناحية والنخبة الحاكمة من ناحية أخرى، منذ تكريس كمال أتاتورك للبلاد كجمهورية علمانية قبل نحو 100 عام تقريباً. أتاتورك كان قائداً عسكرياً بارزاً، وأسفرت بطولاته خلال حملة غاليبولي عن معاناة البريطانيين من كارثة لدى محاولتهم هزيمة الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تسيطر آنذاك على أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي. نظام أتاتورك وبتكريس تركيا كدولة علمانية سعى أتاتورك إلى تحديث البلاد من خلال منحها أسلوب حكم أكثر اتساماً بالطابع الغربي والليبرالي. إلا أن التوترات بين المحدثين المؤيدين للغرب والمؤسسة الإسلامية الأكثر محافظة كان معناها أن تركيا لم تتصالح قط مع تسوية أتاتورك. الضباط والجنود الأتراك الذين انخرطوا في المحاولة الدراماتيكية الأخيرة للإطاحة بحكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المنتخبة ديمقراطياً اعتقدوا بلا شك أنهم كانوا يتصرفون وفق الأعراف العسكرية التي شهدتها البلاد، والتي عانت من كثير من الانقلابات منذ تأسيسها عام 1923. وبينما لا تزال الدوافع الحقيقية للانقلابيين غير واضحة بعد، فإن التوترات بين العسكر وحكومة حزب العدالة والتنمية قد تفاقمت في السنوات الأخيرة بشأن اتباع الرئيس لسياسات محددة. كثيرون يتهمون أردوغان بأنه يسعى إلى إعادة تركيا الى مجدها العثماني السابق. وبالتأكيد منذ تصدره المشهد السياسي التركي كرئيس بلدية إسطنبول عام 1994 لم يبق أردوغان سراً دعمه للتيار الديني. ولم يعان أردوغان من أية أوهام من أن التزامه بالشكل الإسلامي للحكومة في تركيا، حيث تشجع النساء إلى حد كبير على وضع الحجاب، لن يضعه على خلاف مع إصرار العسكريين على إعلاء تراث أتاتورك العلماني. أول صدام جدي بين أردوغان والعسكر برز في عام 2007، عقب اختيار البرلمان التركي رئيساً جديداً ليحل محل رئيس الدولة العلماني. دفع هذا المؤسسة العسكرية التركية إلى إعلان نفسها المدافع المطلق عن العلمانية. ولكن مع ازدياد دعم حزب العدالة والتنمية بحيث جعله القوة المهيمنة في الحياة السياسية التركية، فإن أردوغان كثف جهوده لتضييق الخناق على التدخل العسكري في السياسة التركية، وسجن عدداً من الجنرالات الكبار والأدميرالات، بالإضافة إلى عشرات من ضباط الجيش. الأزمة السورية انخراط أردوغان في الأزمة السورية بالإضافة إلى الدور الذي لعبه، والذي سمح لمئات آلاف المهاجرين بالهرب إلى جنوب أوروبا، قاد إلى سلسلة ضغوطات شديدة في العلاقات بين قادة أوروبا. وأسفر الدعم الجزئي لتنظيم داعش أيضاً عن جعل المجموعة تشن سلسلة من الهجمات في تركيا، وآخرها كان الهجوم على مطار اسطنبول الذي أودى بحياة 42 شخصاً. مركب العزلة الدبلوماسية السياسية التركية المتزايدة والتهديد المتزايد الذي يفرضه المتشددون كان له تأثير سلبي على السياحة، إحدى الدعائم الرئيسية للاقتصاد التركي، التي شهدت تراجع الحجوزات بنسبة 40% في العام الماضي. وقبيل الانقلاب الأخير كانت هناك مؤشرات إلى أن أردوغان يسعى إلى استعادة مكانة تركيا على مستوى العالم، مع مبادرات لاستعادة العلاقات مع إسرائيل وروسيا. والحقيقة التي تشير إلى أن أردوغان كان قادراً على حشد مئات الآلاف من مؤيديه للنزول إلى الشوارع وإفشال الانقلاب من خلال مظاهرات حاشدة من القوى البشرية تظهر أنه لا يزال يتمتع بدعم قوي على امتداد البلاد. ولكن أيا كان اجتهاد أردوغان في معالجة أخطائه الماضية، إلا أن هناك مجموعة قوية، داخل وخارج المؤسسة العسكرية، تعتقد أنه ما لم يكن هناك تغير كبير في الطريقة التي تحكم بها البلاد، فإن تركيا ستصل قريبا إلى مرحلة تتضاءل فيها تركة أتاتورك لتصبح حطاما، وهم على استعداد للدفاع عنها. وراء القضبان سجن في تركيا الكثير من الأدميرالات بحلول العام 2013، بحيث عانت الحكومة لتعيّن رئيسا جديدا للبحرية التركية. وما من شك في أن أحد أسباب فشل الانقلاب الأخير مرده إلى أن الكثير من الجنرالات كانوا وراء القضبان، والقوات المسلحة لم تمتلك الخبرة أو الخبراء كي يقوموا بانقلاب ناجح. وفي حال اعتقد أردوغان أنه تمكن من سحق قدرة العسكريين على تحدي سلطته، فإن انخراطه المثير للجدل في الحرب الأهلية في سوريا، حيث لم يقم أي اعتبار لنشاطات تنظيم داعش، جعل أنصاره يطرحون عددا من الأسئلة حول توجهات تركيا السياسية الحالية.
مشاركة :