الأبطال ينتحرون دوماً بدم بارد

  • 7/20/2013
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

بعد أشهر قليلة على صدور روايته «إيبولا 76»، أصدر الكاتب السوداني أمير تاج السر رواية جديدة في عنوان «366» (الدار العربية للعلوم - ناشرون). وإذا كانت أحداث الرواية الأولى تدور في عام 1976، في الفترة التي ضرب فيها فيروس «إيبولا» مناطق عدة من جمهورية الكونغو - كينشاسا، فإنّ أحداث هذه الرواية تعود إلى عامَي 1978 و1979. وكأنّ الكاتب لا يزال ينهل من «خبريات» الحقبة الزمنية عينها. وإذا كان بطل الرواية الأولى هو «الموت»، الذي نجا منه العامل «لويس نوا» الشخصية الرئيسة، فإنّ البطل هنا، هو «الموت» نفسه. لكنّ معلم المدرسة، الشخصيّة الأساس، في «366» اختار الموت، بأعصاب باردة، وأطلق على نفسه اسم «المرحوم». منذ الصفحة الأولى للرواية، لأنه شعر «بأنّ المحنة قد اقتربت من النهاية»، فارتدى هذا اللقب «عن قناعة». إنّ العثور على رسائل «مكتوبة بحبر أخضر أنيق»، في عنوان «رسائل المرحوم إلى أسماء»، سمحت للكاتب أمير تاج السر، أن ينسج عالماً سرديّاً، يرسم فيه حياة رجل تاه في دوامة الحب، من دون حتى أن يعرف الحبيبة أو يعترف لها. بين استرجاع اللقاء الأول، واستباق الانتحار، تدور أحداث هذه الرواية، والبقيّة تفاصيل. وإن كان تمّ وصف هذه التفاصيل، وبالتحديد مشاعر البطل ويومياته، بدقّة غير متناهية تتاخم حدود الهوس في تصوير حالته، في شيء من الطرافة والدعابة. هو الحب، أو وهم حب، سيطر على عقل البطل، وتحكّم بمسار حياته، التي أخذ يرويها بضمير المتكلّم، متوجّهاً مباشرة إلى حبيبته المزعومة «أسماء»، والتي لم يعترف لها بحبّه. قرّر الانتحار، ومات من دون أن تعرف تلك الحبيبة الحاضرة/ الغائبة عن السرد، بأنّ ثمّة مَن يحبّها بهذا المقدار. تلك الحبيبة «الشبح» التي لم تظهر طوال الرواية، حضرت من خلال حوار البطل معها. فكانت تستولي على المشهد من الخلف، وتستحوذ على اهتمام القارئ من دون حتى أن نلمحها. وظهرت بصمات أمير تاج السر، في تحويل هذه «الوقائع الحقيقية» إلى رواية، يتخطى من خلالها الواقع، وإن انطلق منه. يعلو الحقيقة ولا يعادلها. فنشعر بأسلوب بسيط وعفوي، يمزج فيه الكاتب المزاح والطرافة، بالجدّ والهوس. إنّ «المرحوم» قضى حياته، من دون أن يعيشها. وبرز ذلك من خلال مختلف القضايا الاجتماعيّة والحياتية التي عرضتها الرواية، والتي تناولت حياة مواطن بكلّ تداعياتها الأليمة. وتبرز أكثر إذا ما تأمّلنا أبعادها، وخلعنا عنها عباءة العبارات الهزليّة. ليكون لقب «المرحوم» هو خير توصيف لمواطن لا يزال على قيد الحياة! إنها قمّة المأساة، مواطن عرف الخوف: اختفى والده. تبعه أخوه وغاب الاثنان. ويطرح الكاتب هنا، على لسان بطله، بعض الأسئلة الفلسفيّة: لن أعرف أبداً ما إذا كان هذا الحب بداية حياة أم بداية موت. والسؤال المطروح عن نهاية هذا الحب الوهمي، قد أجاب عنه البطل، بأسلوبه، عندما قرّر الانتحار.   وهم الحب من هنا، تنشأ ملامح ساخرة في النص، مثل: «اخترع رقصة خاصّة، سمّاها رقصة الضوء، يستقبل بها السكانُ الكهرباءَ حين تعود بعد غياب طويل». من صفحة إلى أخرى، ندخل أكثر في تفاصيل حياة الكاتب، وفي وهم هذا الحب التراجيدي. تفاصيل مؤثّرة أكثر منها ممتعة أو مسليّة. وقد حقّق الكاتب هدفه، من خلال حسن اختياره المفردات والأفعال التي دفعت مسار الحركة السرديّة نحو نهاية تفوق حجم الحدث: يبدأ بوهم حب، يتطوّر من خلال الأفعال إلى عيش هذا الوهم، ودخوله في يومياته. ثم يؤول إلى النتيجة الطبيعية لهذه الحال – الاضطراب، وهي الانتحار، لتأتي النتيجة جزءاً لا يتجزّأ من حال التحوّل التي أصابت البطل، والتي تظهر إذا ما تأمّلنا الزمن السردي - التعاقبي: مرحلة قبل التعرّف إلى «أسماء» التي تختلف عمّا بعدها... وربما استمد الحدث الدرامي قوته من فعل الانتحار والتخطيط المسبَق له. هكذا، ارتبطت نهاية الرواية بواقع الشخصيّة المأزوم حتماً. تلك الشخصيّة التي لم تعِ مأزقها، ولم تسعَ لتجاوز أزمتها. وربما تلازم ضيق المكان الذي تتحرّك فيه الشخصيّة بضيق أفقها ورؤياها: يسكن في بيته في «حي المساكن». يراه «كآبة موروثة»، «أنشأته السلطة الحاكمة في نهاية الخمسينات، ووزعته للطبقة الكادحة، بيوتاً ضيّقة من غرفتين...». وربما كانت هذه الكلمات بمثابة استباق أو إشارة إلى ما سيأتي. هكذا، اشتدّ تقلّص المكان، وتحديد نشاط الشخصيّة الروتيني في تأجيج الأزمة، أو بقائها كما هي دون السعي إلى حلّها. وربما كان، في هذا الركود، تأجيج أيضاً، حتى بلغت الذروة الدرامية أوجها. «366» يوماً من الحب، من البحث عن حبيبة، اسمها يشمل «أسماء» كثيرة. يفتّش عنها في الصور، في سلّة الأحياء الراقية، في قصر الوزير... وذلك بأسلوب يطغى عليه التشويق. فيستمتع القارئ بلعبة شدّ الحبال وحبس الأنفاس. ترتفع معها وتيرة التشويق، مع كل محاولة، ومع كل طرق باب أمل جديد... وخصوصاً في القسم الثاني من الرواية حيث تجري عمليّة البحث عن «أسماء». وحيث يتجلّى السرد مطعّماً بالمأساة، الكآبة والسوداويّة المتداخلة مع بعض الأنغام المنخفضة الوتيرة حدّ الهمس. وصولاً إلى النهاية غير المتوقعة والتي تفتح النهاية على احتمالات عدّة، وتبرز فيها جرأة البطل في ناحيتين: الأولى قدرته على عدم الذهاب للكشف عن هوية العروس التي من الممكن أن تكون «أسماء» التي يبحث عنها. والثانية في قرار إنهائه حياته بدم بارد. نهاية أكثر ما يجوز فيها طرح الأسئلة الفلسفية الوجوديّة، والاستعانة بعلم نفس الإنسان، الذي يعتبر أنّ كل يوم إضافي هو مضيعة للوقت، قبل الوصول إلى المحطة النهائيّة: الموت. وبذلك تأتي روايات أمير تاج السر متناسبة مع تلك الحقبة المضطربة والغارقة في مستنقع الانقسامات والأحزاب والأزمات الاجتماعيّة.

مشاركة :