المادية تحت مجهر النقد

  • 7/25/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

يتأسس كل ما هو مأساوي على وضع لا تصالح فيه. وحالما ينجز التصالح أويصبح ممكناً، يختفي المأساوي. غوته الفلسفات والنظريات، المادية والنفعية والواقعية تشكل تراجيديا في الحياة، وضع لا تصالحي، حين تقرر المادة والمنفعة والمصالح، المجردة، ومبدأ القوة، أصولاً لها، ونهايات، وغايات، وأهدافاً، وهي بذلك تعدّ فلسفات ونظريات مؤتلفة، متكاملة، متضامنة، ومتداخلة، ومهما أعطي للفلسفات والنظريات المادية والنفعية والواقعية من تفسيرات، فهنالك شيء أكيد، هو أنها إرث مادي ، أحدث أزمات في تطور الجنس البشري، وهي كمرتكزات فكر وتطبيق وسلوك تدخل على كافة الأيديولوجيات مثل: الليبرالية، المحافظة، الاشتراكية، القومية، الفوضوية، الفاشستية، النسوية..الخ، وهذا هو سر قوة المادية والنفعية والواقعية؛ أنها تدخل بالتأثير والنفوذ على العديد من الرؤى وأنماط التفكير والسلوك، فهناك، مثلاً، ليبرالي ولكن مادي نفعي، وهناك محافظ ولكن مادي نفعي، وهناك قومي ولكن مادي نفعي، وهناك أصولي ديني ولكن مادي نفعي، وهكذا، تصبح المادية النفعية الواقعية قاسماً مشتركاً، أي لها قوة تأثير في كافة الاتجاهات والثقافات، طبعاً، وفق درجات متباينة، لهذا فإن المادية النفعية الواقعية وبهذه الأصول الحدية التي تحملها تتعارض مع الفلسفة الجمالية. يتساءل بعضهم: كيف أن المادة والمنفعة والمصلحة ومبدأ القوة هي قيم واقعية في الحياة، وتستقيم الحياة بها، لكونها صفات طبيعية تعكس الطبائع البشرية، فبدونها لا تكون هناك حياة، أصلاً، بالمعنى التطبيقي، فكيف تعارض الفلسفة الجمالية ذلك؟ وعلى أي أساس؟ أليست معارضتها هذه مناقضة للواقع؟ أو هي يوتوبيا أو مثالية؟ ولماذا تخلق الفلسفة الجمالية نقداً ضد فلسفات ونظريات وتطبيقات أثبتت وجودها وانتشارها ونجاحاتها، ولها أنصارها ومريدوها وعلماؤها الكثر، ومؤسساتها، كما أن شواهدها وأدلتها واضحة؟ خاصة أن هناك فئات متنوعة من الناس، سواء من النخبة أم الطبقات الشعبية أم حتى المثقفين، أم غيرها من فئات مجتمعية، من يؤمن بالمادية والنفعية والواقعية، كدستور حياة، ومنهج لها، وأن مسائل المادة والمنفعة والمصلحة والقوة والصراع والتنافس والتسابق المحموم هي قضايا محسومة، في الواقع المعاش، خاصة أن الفلسفات والنظريات والتطبيقات المادية النفعية الواقعية لها زخمها وقوتها ونفوذها في العالم الغربي، والاقتصاد الرأسمالي، في القلب الغربي، على وجه التحديد، الذي صاغ هيكل العالم بأسره، خاصة الهيكل الاقتصادي العالمي، وأصبح العالم، آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، هوامش في هذه الحالة، بمعنى أن العالم قاطبة متأثر بالفلسفات والنظريات المادية النفعية الواقعية، وغدا هناك تفكير وسلوك مادي نفعي واقعي سائد حاكم للإنسان، كما يحكم التصور. أين تكمن المشكلة إذن مادام هذا هو الواقع الذي فرض نفسه وتم قبوله؟ وهل المادية والنفعية والواقعية مفتقدة للجمال تماماً حتى تتم معارضتها؟ وهل الفلسفة الجمالية ذاتها لا تتضمن قيماً مادية أو نفعية أو واقعية حتى تمايز ذاتها عنها؟ وماذا قدمت الفلسفة الجمالية للعالم حتى تعدّ ضرورية مقارنة بالفلسفات المادية والنفعية والواقعية؟ وهنا يبرز سؤال آخر: كيف تصدر التراجيديا المادية النفعية الواقعية عن دوائرها المبهمة التي تصنعها للإنسان الذي يعيش في إطارها، والتي تقصر عن إدراكها المعرفة الجمالية، وهي معرفة كلية شاملة، جذرية، موضوعية، مرئية وغير مرئية، مشاهدة وغير مشاهدة، محسوسة وغير محسوسة، وتشمل المعرفة الإنسانية؛ بمعنى أن الإنسان محور الأشياء والمواضيع، كما لو كان في غياب المعرفة الجمالية ما يبرر وجود المأساة والقبول بها، فالفلسفات المادية النفعية الواقعية ليس لها نزوع للمعرفة الكلية الشاملة، التي من متطلباتها البحث العلمي الموضوعي الدقيق للوصول للحقائق، و وضع الحلول الجذرية للإشكالات، بما يحقق الجمال، والجمال هنا يتجاوز أطره الفنية إلى الأطر الحياتية كافة، ولهذا فالفلسفات المادية النفعية الواقعية تتوغل في الصراعات، بل وتروج لها، ولا تجتهد في وضع حلول إنسانية لها، مطلقاً، بل تجدها تنزع إلى عملية ترحيل المآسي، وتبريرها، حيث قد ترتبط المأساة بالتجارة؛ بالعامل التجاري. فالظاهرة الاستعمارية، على سبيل المثال، وعمليات الاستغلال، التي تمّت عبر التاريخ، كانت مرتبطة بالمسألة التجارية، والعامل الاقتصادي، تماماً، كما أن الفلسفات المادية النفعية الواقعية لها ارتباط بالفروقات والتفرقة والطبقية وعمليات الاستغلال المنظم، وهي تؤمن بها، وتدخل في ممارساتها، وهذه كانت مكامن خطر، عبر التاريخ، ولا زالت، فمسببات الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال، وهي حرب أهلية أوروبية، بامتياز، ولم تكن عالمية، هي مسببات نفعية مادية واقعية بالدرجة الأولى داخلتها فلسفات شوفينية أي حب الذات وتقديس الذات ورقي عنصر بشري على عنصر بشري آخر، واستباحة عبوديته، فبعض المصادر والوثائق التاريخية تذكر، في هذا المجال، أنه حين اجتمعت (القيادة الألمانية والقيادة السوفييتية) في عام 1941، سراً، على الأراضي البولندية المحتلة، عرضت القيادة الألمانية على القيادة السوفييتية اقتسام الكرة الأرضية، أي اقتسام العالم، عبر تحالف مشترك! وهذا يعكس جنون عظمة متطرف، يعكس بدوره ثقافات متطرفة، وينتج بالتالي سياسات متطرفة، وحب للذات مقدس أو شبه مقدس، وقد دفعت ثمنه الشعوب الأوروبية عبر أكبر مجزرة إنسانية وتدمير للمدن لم يشهد لها التاريخ الإنساني، مثيلاً، وتسبب بحزن إنساني لاحد له. وعلى ذلك، يمكن القياس عالمياً، فالمشاهد ذاتها تتكرر، بطريقة، أو بأخرى؛ قتل للإنسان، وتدمير للمدن، وتعطيل للإنتاج، وانحسار للثقافة المستنيرة، ونشر للتطرف، وخلق حالات فوضوية. المادة والمنفعة والمصلحة ومبدأ القوة، هي فعلاً قيم وتطبيقات في الحياة، تتم ممارستها بشكل يومي على مستوى الأفراد والمؤسسات والحكومات والدول، بدرجات متفاوتة، ولكن هذا لا يعني شرعيتها الكاملة، وبأنها مناسبة تماماً لخدمة الجنس البشري، وتأسيس حياة متكاملة وسعيدة، خاصة في ظل ظروف عالمية واقتصادية واجتماعية ونفسية معاصرة متصاعدة، تؤكد أهمية فهم، وتحقيق، وتقوية، وتعزيز، كل ما يحقق التقدم والسعادة مثل: الثقافة الإنسانية والحلول الدبلوماسية والتسويات السياسية والخيارات الاجتماعية والسياسات التنموية الاجتماعية والتعايش السلمي والمحافظة على الموارد البشرية وغير البشرية والادخار القومي والإنتاج العلمي، والبحث العلمي واحترام خصوصيات البحث العلمي وأدبياته وتقاليده العريقة الراسخة وعدم تعرضه لانتهاكات، حيث إن البحث العلمي إذا تعرض لعنصر الخوف والإرهاب سيتحول إلى بحث غير علمي، سمِّه ما شئت!. نحن نعيش ظروفاً عالمية واقتصادية واجتماعية ونفسية معاصرة متصاعدة تؤكد أهمية فهم، وتحقيق، وتقوية، وتعزيز، كل ما يحقق التقدم والسعادة مثل: الإنتاج الحقيقي والحياة المدنية والحركة الفنية وإزالة الفروقات وتنمية الأخلاق المدنية والانسجام الاجتماعي وربط السياسة بالثقافة والأنسنة وعلم الاجتماع في مواجهة معوقات مثل: ثقافات التجزئة والعنصرية والحروب والنزاعات وقلة مخصصات البحوث العلمية وضعف البحث العلمي ومحدودية تأثيره والحياة غير المدنية وتقييد الإبداعات وترسيخ الفروقات والهدر بكافة أشكاله ونشر الخطاب الدرامي التراجيدي العدمي الغاضب الانعزالي الظلامي في المجتمعات، بدلاً من الخطاب الإبداعي الإنتاجي الموضوعي العلمي العادل الجمالي المستنير وقصر السياسة على مفاهيم القوة والسيطرة وحجب السياسة عن أصولها الحقيقية وهي الإدارة والتنظيم على مستوى الحياة العامة والخاصة، والحكمة وتنظيم الحياة المدنية وتحقيق السعادة. القيم المادية النفعية المصلحية ومبدأ القوة، كونها تعكس الطبائع البشرية، فهذا رأي محل تساؤل، لا يمكن قبوله على الإطلاق، فالطبيعة البشرية أعمق وأعقد من ذلك، ومن ادّعى بأن الطبيعة البشرية ترتكز على هذه القيم تحديداً فهذا غير صحيح، أو هو إيمان الأقلية، في أحسن الأحوال، يعكس مصالح ضيقة، وليس إيمان الأغلبية الإنسانية التي ترنو للعدل وتعشق العيش بسلام واطمئنان، وتحب أن تعطي وتنتج وتبدع وتقدّم لأوطانها وللإنسانية من فكرها وإبداعاتها، وتؤسس حياة اجتماعية وأسرية مثالية، وهذا ما يفسر استمرارية المقاومة عبر التاريخ لأي فكر وتطبيق غير إنساني، وإن ساد وسيطر لفترة أو لفترات من الزمن، حيث إن أي فكر أو ممارسة أو ثقافة أو سياسة غير إنسانية هي في النهاية غير جمالية ستعمل بصورة تلقائية على تجميع قوى مناوئة لها. الفلسفة الجمالية حين تخلق نقداً في العالم ضد الفلسفات والنظريات والتطبيقات المادية النفعية الواقعية، التي قد أثبتت وجودها وانتشارها ونجاحاتها، ولها أنصارها ومريدوها وعلماؤها الكثر، فذلك لأن الفلسفة الجمالية لا ترى في مسائل الوجود والانتشار وكثرة الأنصار والمريدين والأساتذة أدلة بحد ذاتها على الجودة والكفاءة وخدمة الإنسانية وتحقيق التقدم والسعادة، التي لها معاييرها الموضوعية العلمية المستقلة، كما أن للفلسفة الجمالية، ذاتها، معاييرها الخاصة بها، التي تقيس بها الأشياء والمواضيع والعناصر والموجودات والأشخاص والصفات والأفعال. المادة والمنفعة والمصلحة حين تلتزم بقوانين الجمال، وتحتكم إلى الفلسفة الجمالية، وتعي الذوق الجمالي، فإنها تعود للأصل بأن تكون محكومة بالفلسفة والنظرية الجمالية، وهنا سوف تختلف عن أصولها، وتتخلى عن سماتها الحادة، وغير الإنسانية، أو على الأقل تخفف منها، وتطعمها بشيء من الجمال، وسماته، وبالتالي تصبح أدوات ومناهج وسياسات جمالية، أو على الأقل تراعي الأدبيات الجمالية، وهذه مسؤولية الفكر الجمالي التاريخية ألّا يترك الفكر المادي والنفعي والواقعي أن يسيطر ويستبد نظراً لحجم الخسارات الضخمة المترتبة على ذلك. المشهد الحياتي حين تسوده القيم المادية النفعية الواقعية، بدون تعديلات جمالية، أو عمليات تحسين جمالية، تبرز فيه صراعات، علنية ومستترة، وتنافس مادي، ويتشظى المجتمع إلى مجتمعات قلقة صاخبة لا تستطيع استيعاب متطلبات الإنسان، ولا متطلبات الجمال، كما يحتوي هذا المشهد الحياتي على سوء فهم شديد لمعنى الحياة، وينتج عن ذلك ظاهرة غياب التفسير الحقيقي والتحليلي للظواهر والمشكلات والمواضيع الملحة، حين يكتفى فقط بالتفسير العرضي، الشكلي، وتلفيق الوقائع والحوم حول الأفكار والاقتصار على التلميحات وأنصاف الأفكار. الفلسفة الجمالية، ذاتها، تحتوي على قيم مادية ونفعية ومصلحية و واقعية، خاصة بها، حيث إنها جمالية، بمعنى أنها خاضعة لقوانين الجمال، وذلك حتى لا تتوحش هذه القيم وتتطرف وتتشدد وتغدو ضارة بالإنسان والحياة والمجتمع، فالفلسفة الجمالية تسعى لمنع الضرر الحاصل جرّاء قيم الجمود والتشدد فضلاً عن المظاهر السلبية الأخرى. الفلسفة الجمالية قدّمت الكثير للعالم، ففي كل لحظة تتطور وتتجه صوب الظروف والمتغيرات، نحو التطرف والحروب والعنف والصراع والتشظي والنزاع والتنافس المدمر، والاستغلال والتدمير المنظم والتفرقة وهدر الإمكانات، وهنا، تعمل الفلسفة الجمالية وفق آليات المقاومة الجمالية المتنوعة والإبداعية وعبر المؤمنين بها عبر التاريخ على عمل التوازنات المطلوبة في الحياة، العامة والخاصة، وضبط الميكانيزم الحياتي من خلال إعادة التركيز على محورية الإنسان في الحياة، وكل ما يحقق جماله وكماله، وبالتالي سعادته.

مشاركة :