ضريبة التفكر والتفكير، ضريبة المحاولة والاجتهاد، ضريبة البحث والتجريب، ضريبة الابتكار والإبداع... لقد دفع مئات العلماء والمفكرين الأوائل ضريبة باهظة لإعمال العقل، والأمثلة كثيرة لا تحصى، عباس بن فرناس، ابن رشد، الحلاج، ابن المقفع، ابو العلاء المعري، الفارابي، ابن سينا، وابن طفيل، ابن الراوندي، الجاحظ، ابن الهيثم، الرازي مبتكر خيوط الجراحة، جابر بن حيان مؤسس علم الكيمياء... أُتهم كل هؤلاء العباقرة بالكفر والزندقة. وسنأتي على ذكر معاناة وعذابات ثلاثة منهم فقط: الحسين بن منصور الحلاج، فيلسوف وشاعر صوفي، ولد في البيضاء بفارس العام 858، ونشأ وعاش وتوفي في العراق 922، أصدر الحكم عليه الخليفة العباسي المقتدر بالله بألف جلدة ثم شنق، لأنه كان رافضاً الظلم والطغيان، لكن لُفقت له تهمة الكفر والزندقة. ابن رشد أبو الوليد محمد بن أحمد الأندلسي، ولد في قرطبة العام 1125... قاضي القضاة، عالم في الطب والفلك والرياضيات والفيزياء والجغرافيا والفلسفة والعلوم الإسلامية، عاصر دولة الموحدين، وله مئات الأعمال التي لم يصل إلينا منها إلا اليسير، أول من درس مرض باركنسون وشخصه بدقة، وله أعمال في الخلايا المستقبلة للضوء، وفي التقارب بين الدين والمنطق وبين الدين والفلسفة، كتب عن الرسول محمد (ص)، وعن أرسطو وأفلاطون وأفلوطين، أُحرقت كتبه وتم نفيه إلى قرية اليسانة بتهمة الزندقة على يد المنصور أبو يعقوب الموحدي، وأصدر منشوراً يحرم قراءة كتبه. وبعد سنوات عرف السلطان بطلان التهمة فأكرم مثواه، لكنه توفي بعد فترة وجيزة في مراكش 1196. عبدالله بن المقفع، ولد العام 724 في إيران، ونشأ وعاش ما بين البصرة وبغداد، وقتل عام 756. كان على خلاف مع والي البصرة سفيان بن معاوية بن يزيد أثناء حكم الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، ألصقت به تهمة الكفر والزندقة، وكان مقتله من أبشع الجرائم في التاريخ، حيث ربطه الوالي وأدخله في فرن تنور حتى أصبح حامياً ثم أمر بتقطيع أعضائه عضواً عضواً، وكل عضو يُرمى أمام عينيه في النار، حتى فارقت روحه من هول التعذيب. وفي القرن العشرين، تم إلصاق التهمة نفسها بالمجددين والمفكرين، أمثال الشيخ محمد عبده، ورفاعة الطهطاوي، وطه حسين، ثم نجيب محفوظ، وحسين مروة، ومهدي عامل، وفرج فودة، والأسماء الأخيرة الثلاثة تم اغتيالهم على يد الإسلام السياسي، ثم نصر أبو زيد، وعشرات بل مئات غيرهم. وها نحن في القرن الواحد والعشرين وما زالت تتكرر المأساة مع مفكرين وإعلاميين وشخصيات عدة. إن الله خلق الإنسان لكي يفكر ويعمل عقله من أجل أن يُعمّر الأرض، ولأنه بشر لابد وأن يخطئ، والحديث الشريف يقول: «من أخطأ فله أجر ومن أصاب فله أجران». المشكلة أنه أصبحت تهمة ازدراء الأديان جاهزة للتكفير، ولقد تم وضع هذه الجنحة أو الجريمة في القانون في عهد الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، لكي يحد بعض المنابر الدينية من التشهير والتحريض على الدين الآخر، فحينما استقوى الإسلام السياسي، بدأ أتباعه من المنابر يهاجمون المسيحيين، ورد المسيحيون بالمثل، فصدر ذلك القانون في العام 1982. إن شيوخ الدين العقلاء، أمثال الشيخ محمود شلتوت - رحمه الله - اجتهد وأفتى قبل سنوات طويلة بعدم جواز تكفير المسلم، وعدم وجود حد الردة في الإسلام، والآيات كثيرة التي تؤكد ذلك مثل «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء»... «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». إنها ضريبة العقل والتفكير، وأي تهمة توجه إلى أي مفكر تعني جهلاً بالدين وتشويهاً له، بل وخيانة للوطن. كيف يمكن تجديد تراثنا؟ كيف يمكن تجديد الخطاب الديني؟ كيف يمكن تنمية أوطاننا؟ وكيف يمكن فتح أبواب الاجتهاد والإبداع وأنتم تفرضون حجراً على الفكر والتفكير؟ الوضع في كل الأقطار العربية كارثي، وأعيننا على مصر لأنها المنقذ والأمل، فإن عادت مصر قوية، تستطيع آنذاك شرايين الوطن العربي كله أن تتغذى منها، فهي مهد النور والتنوير، والرئيس عبدالفتاح السيسي يحاول، لكنه في واد والحكومة في واد، لأن الوضع الحالي في مصر يحير المرء، نعجب من مقتل شيماء وحصول قاتلها على البراءة! نستغرب من زج خيرة شباب الثورة في السجون! نتعجب من تسليم وزارة الأوقاف 400 مسجد إلى السلف و«الإخوان»! ونحتار من حبس إسلام البحيري وغيره! فهل ما زالت «طيور الظلام» تعشعش وتفرخ؟ هل خرج أتباع النظام السابق و«الإخوان» من الأبواب ودخلوا من النوافذ؟ الله أعلم. لكن السؤال المؤلم: عن أي نهضة وأي تقدم وأي تنمية للأوطان تتحدثون، وأنتم تخافون الكلمة والعقل والتفكير؟ aalsaalaam@gmail.com
مشاركة :