ما وقفت أمام (حقل الفلسفة والفلاسفة) في مكتبتي, إلاّ وأشفقت عليهم، وعلى خوضهم في لجج الضلالات، ومخاضاتهم المتعسّرة، وتجمد آمالهم، وتطلعاتهم على شفاههم، وهم يؤملون الوصول إلى شاطئ السلامة. يقال:- (مَسَاكِينُ أهْلِ العِشْقِ حَتَّى قُبُوُرُهم عَلَيْها تُرابُ الذُّلِّ بَيْنَ المَقَابِرِ) وما مسْكَنةُ الفلاسفة بأقل من مَسْكَنَةِ العاشقين . فالعاشق غريزي، شهواني. أما الفيلسوف فتوّاق إلى متشابه الفكر, ومغالَيق الغيب . واللهاثُ وراء المغيبات طردٌ لسراب القيعان. والمجهد من ملاحقة العلم اللَّدُنِّي، يثوي تحت مغارة في مفازة، وهو يردد:- (نِهَايَةُ إقدامِ العُقُولِ عِقَالُ) الفلاسفة لهم نظراتهم في المسطور، والمنظور، ولهم آلياتهم، ومناهجهم . فهم يراوحون بين (محورية النص) و(محورية العقل) وهم إلى هذا أميل. وإذا قاربوا النص، توسلوا بتأويل الفهم، فضلاً عن تأويل المعنى, لينقاد النص إلى المراد، والمضمر. والكثير منهم يحمل مضمراته، ليطوع النص على تعزيزها. لقد واكبهم المنهج الاعتزالي في إدارة (النص) في فلك (العقل). في حين أنّ الأمة الإسلامية (أُمة نص، وعقل)، والمعتدلون من يديرون العقل في فلك النص. هذه الثنائية العصية: ثنائية (النص، والعقل) أنشأت طوائف من المفكرين، والفلاسفة، والمتكلمين، والمتصوفة, والملاحدة, والنصوصيين الظاهريين، والحديِّين المتنطِّعين. ولكل طائفة من هؤلاء, وأولئك (نظرية معرفية) تُضِلُّ، أو تهدي. والباحث عن الحقيقة (في لُجَّةٍ أمْسِكْ فُلاناً عن فُلِي) هناك نص يُقْرأُ . وخطاب يحلل. وإبداع يُتذوق، وكل جيل يفزع بآلياته، ومناهجه للقراءة، والتحليل، والتذوق. هذا الفعل المتوتر قد ينشئ قطيعة مع المخالف. وقد تتطور هذه القطيعة إلى عداوة، تفرز التجهيل، والتضليل، والاستبعاد. أشرت من قبل، وأنا بصدد الحديث عن تحولات (مركز الكون النقدي). بحيث رصدت تحولات ثلاثة:- من المبدع إلى النص، ومن النص إلى المتلقي. ولكل مركز آلياته، ومناهجه، ومقتضياته، وادعاءاته العريضة، ورهاناته الباذخة. ولما كان الفلاسفةُ نقدةً جسورين، متأولين، منقطعين، فإنهم قد يراوحون بين (النص), و(العقل), و(العاطفة) . بل يفرضون شراكتهم في خلق نص جديد، يتولّد من النص السابق، ولكنه لا يحمل كل (جيناته). (التفسير القرآني) في نظر البعض نصٌّ رديفٌ، ومثله (شرح الأحاديث). ولكن العقل، والأنساق، والخلفيات المتعددة، تفصل النص الرديف عن مصدره، ثم لا تتورع من تحميل النص الأصلي مسؤولية النص الرديف . وعلى المستخف بهذه النتائج المضلة استحضار اتجاهات المفسرين في العصر الحديث، واضطرابهم المخل في استكناه المفاهيم. واعتماد المستشرقين، والمستغربين، والمتحدثنين, والمتعلمنين على شطحات النص الرديف، وتوثيقها على أنها شهادة من الأهل, تحمل من الوثوقية، والقطيعة ما يحمله النص الأصلي يُعَدُّ مؤشر نوايا مبيتة، لإجهاض النص الأصلي، والتشكيك في ربانيته. هذه المناطات تمد الفلاسفة بالغي، وتمهد لهم طريق الضلال. وإذ تَكُوْن للنص الرديف أساطيره الإسرائيلية، وحكاياته الخرافية، وإغراقاته الصوفية، وضلالاته الطائفية، فإنّ مباهاة أولئك المتلصصين, وجلد حجاجهم يشغل الاتجاهات المعتدلة في الملاحات, والمناكفات غير المجدية. مُعضلةُ الفلاسفة أنهم يفصلون النص عن مصادره, ومقاصده، ليتلبس مُكْرها بالذات القارئة. وللذات القارئة رؤيتها، وتصورها لـ(لله) و(للكون) و(للحياة). وهو تصور لا ينطلق من النص المحكم. والمشكلة أن الفيلسوف، وهو يشكل رؤيته، وتصوره لا يتحمل مسؤولية ذلك، بل قد يحيل إلى النص الذي لا يحتمل الرؤية، ولا التصور. وتلك معضلة. فلو أن الفيلسوف أعلن عن مسؤوليته الشخصية، وَبرَّأ النص من لوثته الفكرية، لكان خيراً له، وللمشهد. فضلال الفيلسوف، والحالة تلك تكون مسؤوليته الشخصية. فـ(الهرمُنيوطيقا) و(التأويلية) و(الحجاجية) كلها تنطلق من النص، وتعود إليه. مع أنّ النص مكره على تحمل الرؤى، والتصورات المتشعبة بمفاهيم التلقي بوصفه المهيمن. - يتبع -
مشاركة :