قد يكون للفنانين الشباب عالمهم الخاص يقرأون فيه ما يريدون ويعبّرون فيه عما يرغبون، لكن تبقى الأصالة المتمثلة بالتراث الثقافي الذي توارثته الأجيال المتعاقبة منهلاً يرتوي منه كل من يريد لنتاجه الاستمرارية، بغض النظر عن عمره. أدهم الدمشقي فنان وشاعر ورسام تشكيلي وباحث، أحد هؤلاء الشباب الذين أبوا إلا أن يعمقوا تجربتهم في أرض الأجداد الخصبة، فنهل منهم الأصول والمبادئ والقيم الفكرية والإنسانية، وانطلق مما راكم على مرّ السنوات من دراسة واطلاع، ليضفي على أعماله مبادئ وجماليات تمنحها أبعاداً تضرب جذورها في الماضي وتسير بخطى ثابتة نحو المستقبل... أحدث نتاجه فيلم وثائقي يتمحور حول «موسيقى بلاد الشام.. من التراث حتى النصف الأول من القرن العشرين»، وعرض «طريق الشام مقطوعة... موسيقية»، كلاهما من فكرته وإعداده، وتقديم اللقاء الثقافي الذي أسسه ويترأسه، في منطقة ضهور الشوير في جبل لبنان، برعاية وزير التربية والتّعليم العالي في لبنان الياس بو صعب، ضمن مهرجانات «عيد المغتربين». عن أحدث أعماله وتجربته المتعددة الاتجاهات، وعلاقته بالمخرج المسرحي الرائد منير أبو دبس، كان الحوار التالي معه. أخبرنا عن فيلم «موسيقى بلاد الشام.. من التراث حتى النصف الأول من القرن العشرين»، وعرض «طريق الشام مقطوعة... موسيقية». «طريق الشام مقطوعة... موسيقية»، حفلة موسيقية غِنائية مع المطربين بادية حسن وملهم خلَف والمايسترو وليد بو سرحال، تهدُف إلى إعادة تَذَكُّر وإحياء الفنون الطَّربية والشَّعبية والفلكلور اللّبناني - الشامي الممتد على طول طريق الشّام الذي كان حاضناً ومعاصراً للنهضة الفنية والفكريّة وللحفلات العامرة في فنادقِهِ ومسارحهِ، والذي كان ولا يزال جسراً لتواصل الثقافات والحضارات والفنون. وتضمّنت الحفلة عرض فيلم وثائقي من إخراج غسان السبعلي، يتحدّث عن موسيقى بلاد الشّام منذُ التراث حتى بدايات القرن العشرين والتي تنوعت بين ثلاث، الموسيقى الجبليّة والموسيقى المُدُنيَّة والموسيقى البدويّة. وتحدّث في الوثائقي الأب الدكتور بديع الحاج والأستاذ المايسترو وليد بو سرحال والشاعر الياس خليل. أنت شاعر ورسام تشكيلي وممثل ومخرج مسرحي، كيف تحدّد العلاقة بين هذه المجالات؟ قد يكون ظاهر الأشياء مختلفاً شكلاً وصورة، لكن كلّ الألوان الفنّية هي تعبير الذات عن تساؤلاتها ودهشتها. لم أقصد يوماً اختيار لغة التعبير المُسْبَقة أو إِلباس تساؤُلاتي قالباً فنّياً من القوالب الثلاثة. أسعى دائماً إلى أن أترك شعوري بِسَجِيَّته يختار لُغة التَّعبير التي تُلائِمُه فهو أصدق من إرادة العقلِ وخياراتِه، ولا أفرض عليه لغة الشِّعر أو اللون أو المسرح، أو أضرب موعداً مثلا مع الكتابة، فأقول اليوم سأكتبُ قصيدة أو أرسم لوحة. أُطلق أجنحَتي بخفةِ فراشةٍ في حديقةِ الفن، تَحمِلُها الرِّيحُ لتَحُطَّ على زهرة الشعر أو اللون أو المسرح. مجموعاتك الشعرية الثلاث... إلى أي مدى تندمج بشخصيتك وحياتك؟ في كتابي الأول «لو أني الله» الصادر في 2009 عن دار «درغام»، كنتُ أسعى لأن أكون شاعراً، وأتقمّصُ كل شخصيّة ألتقيها وتتركُ أثراً فيَّ أو تُحاكي جانباً عَتَّمهُ خَجَلُ الإفصاح والوعي عندي. وكَتَبتُ عن أمور شخصيّة لكن بلسان شخصيّات توزَّعت في الكتاب، وأسقطتُ فيها ما أريد لتكون الوسيط بيني وبين القارئ، لأنني لم أكن أملك حينها الجرأة أو الوعي الكافيين لأقول ما أريده بلسان حالي. وربما هذا ما ورثناه عن آبائنا في الشعر والرّواية بحيث كان الكاتب يتواصل مع قُرّائِهِ عن طريق الوسيط، الشخصيّات التي يُفرغُ فيها الكاتب إسقاطاتِهِ فَتُظَلِّلُهُ ولا تضعهُ في واجِهَةِ الإفصاح ومواجهة الحقيقة والقارئ. أما الكتاب الثاني الذي صدر في 2011 عن «دار نلسن» ولم يحمل عنواناً بل إشارة دائرة، فكان المفتاح الأوّل نحو عبور الذاكرة وتحريرها. بحيث خضتُ تجربة من الوحدة عشتُ فيها سنة كاملة في غرفة صغيرة على كتفِ وادٍ في منطقة الشوير في جبل لبنان، وعَبَرْتُ من عزلتي إلى سراديب الذات حيث انكشفت ذكريات وأحداث لم أنسَهَا، لكنّني عَتَّمتُ عليها لأنني لم أكن أجرؤ على مواجهتها. وهنا كان يمكن أن أغرقَ أو أنجوَ ومعي جواهر الطفولة ودهشتها. لكنّني حفظتُ الطريق إليها وبِتُّ أعرفها كما يعرفُ أهل البيت بيتهم، يتنقلون في العتمة ويتلمسون الجدران بلا خوف. وهذه التجربة من التصالح مع الوحدة حَمَلتني إلى كتابي الثالث الصادر عن «دار الأداب» في 2014 بعنوان «لم يلد ذكراً لم يلد أنثى» حيثُ تصالحتُ فيه مع مرحلة مهمّة من طفولتي عشتها بين الفقر والحرمان، بين الغربة والغرابة، الموت والتساؤلات والوجوديّة، حيثُ وقفتُ للمرّة الأولى أمام مهابة الموت، موت والدي المُمَدَّدِ على سرير أبيض وحوله نساء نوَّاحاتٌ كثيراتٌ بمنديلهِنَّ الأبيض يندبنهُ، وأنا ابن التاسعة، وسطَ كل هذه الطقوس لا أعرف إن كان أبي نائماً أو ميتاً، وحين تقدَّمَتْ إحداهُن منِّي هامسةً لي: «ما تزعل هلق بِكون خِلِق ولد حلو كتير عند غير ناس» سألتُ نفسي، «معقول في مَرا تاني حِبْلِتْ بِـ بَيِّي وكانت عم تِسرقو يوم بعد يوم، وبين طلق الولادة وآخر نَفَس لفظوا معقول نسي كل شي، محاني، مَحا كل ذاكرتو أو بعدو بيعرفني»، وثم، أعودُ بعدها إلى بيتي الصغير أرافقُ أمي التي تعملُ في تنظيف البيوت، والمدرسة التي نتعلّم فيها، فأكتُبُ عن إحراجي أمام زملائي، يوم كانت أمي تطرق باب الصّف، صفّنا في المدرسة الجبليّة، وتدخل بيدِها إبريق المازوت لتُحبِّر الصوبيا»، أو عن «أوّل ريحة حلوي بذكرا، ريحة الديتول ودوا التنظيف، لمّا إمِّي كانت تاخدني معا ونروح انَّظِّف البيوت الحلوي». هنا لم يعد يقف بيني وبين البوح أي وسيط أو شخصيّة، صرتُ أنا الرّاوي والكاتب والممثِّل. وصار النّص مفتوحاً على الماضي والحاضر والمستقبل. لأنّه يختارُ من الماضي أجملَهُ وأقبَحَهُ، ويُعيدُ كتابَتَهُ ليتصالحَ مَعَه ويصير القبيحُ المُخجِلُ في الماضي، مَدعاةَ فخرٍ وانتصار حينَ يصيرُ الواقعُ المؤلم، نَصّاً إبداعيّاً تَحَرُّريّاً جميلاً. مع منير أبو دبس رافقت المخرج المسرحي الرائد منير أبو دبس في سنواته الأخيرة وشاركت في مسرحيات من إخراجه، فماذا تعلّمت منه مسرحيّاً وإنسانيّاً؟ لا أعرف إن كان محظوظاً أو لا من يدخل إلى مدرسة معلّم كبير مثل منير أبو دبس. لأن الدّخول إلى عالم منير، وبخاصةٍ من شاب في مطلع العشرين، أمر مهم على قدر خطورتِهِ. فبِقَدرِ ما يُكسِبُكَ منير من خبرات المسرح ويوسِّع لكَ عالمَك ويقودُكَ إلى ذاتِكَ ويُثَقِّف نظرتَكَ إلى الفن، فيهذِّب ذوقَكَ ويحميك من الوقوع ضحية لصوصِ المعرفة والفن. يمكن لهذا المعلِّم أن يمحوَكَ ويُذيبَكَ فيه. وهنا الامتحان الأصعب. لأن الممثل حين يكتسب ما يحتاجُ إليه، طبعاً سيحاول أن يحلِّق بعيداً في فضائه الخاص، فيقع في دائرة التحرُّر والتأثر، ويعيش الذنب أمام وفائه لِمَن أكسَبَهُ المعرفة الأولى وبين تطلّعاتِهِ التي تجبِرهُ على قتل صورة الأب. كل من مرَّ في مدرسة منير كان لا بدَّ من أن يقَتُلَهُ ليحيا. ومن لم يقتله طواهُ منير في ظلِّه فمحاه. منير علّمنا الكثير، أحببناه، وافقناهُ وخالفناه كثيراً وتشاجرنا معهُ حول المسرح والفكر والتطلّعات. لكن الآن حين أنظرُ إلى تلك التجربة، أُدركُ كم كنتُ مُراهقاً حينَ تمرّدتُ عليه، وحتّى الأشياء القبيحة التي رأيتُها فيه كم كانت مفيدة لنا كي لا نذوب ونمّحي، وأنها كانت المسافة الوحيدة بيننا وبين الاستسلام والغياب والذوبان. وكم كان حكيماً حين تركنا نرحل عنه، لنبحثَ عن أنفسنا فنفهم الناحية الأخرى من تكوين الذات وتحقيقها، الذات التي كانت أولى اهتمامات منير في إعداد الممثّل. برأيك هل تدفع المعاناة وحدها الشاعر إلى الإبداع؟ الموهبة فاكهة فجّة، أما التجربة والمعاناة فهيَ النار التي تطهو الأشياء لِتُنضِجُها وتُهَذِّب مذاقَها. هل تعتبر أن للشعراء الشباب مكانة اليوم بعد تراجع الاهتمام بالشعر؟ من يؤمن بحقيقة الشعر، يؤمن بأنّهُ حياة مُستقلِّة وأَنْزَه من الواقع إن تفاعل معه أو خرجَ منهُ. لكنّه يحيا خارج العدّاد الزمني الرقمي، وأن الحضارة إن نامت اليوم ستصحو بعد حين وتنفض الغبار عن ذهب المعرفة والحقيقة فتراها لامعة حيّة. لهذا على الشعراء أن يثبّتوا إيمانَهم بقوة المعرفة والفن، لأن الشعر كالفن كالحقيقة هو المستقبل الدائم. المستقبل الذي يعيشُ في الماضي والحاضر والآتي. شاركت في وضع دراسات عن الشعراء الكبار من أمثال خليل حاوي، هل تأثرت بهؤلاء الكبار؟ كلّ من مرَّ بداري تَرَكَ لي حفنَةَ تُرابٍ أُنبِتُ فيها حديقتي وأشجاري. الشعر ومواقع التواصل الاجتماعي عن الشعر اليوم وهل يركّز على الشكل أم يبقى المضمون الأساس، بمعنى هل يهتم الشاعر اليوم بالشكل قبل المضمون أو العكس، يوضح أدهم الدمشقي: «الشّكل هو تقنيّة العصر المُتاحة أمام الشاعر أو الفنّان ليُعَبِّرَ فيها عن ذاتِهِ. وإن تفوّق الشكل على المعنى طواهُ الزمن الذي يطوي كل التقنيات ويستحدِثُها. وإن تفوّق المعنى على الشكل، بات كالدواء، مُفيداً وضروريّاً لكنَّ طعمَهُ مرٌّ وغير مُحبَّب. أما أنا فأرى أن التّكامُل هو الحداثة التي ترتقي بالشكل والمعنى». ردا على سؤال: في عصر مواقع التواصل الاجتماعي واقتحام الفيسبوك حميمية الأشخاص، هل يبقى ما يحكى شعراً؟ يجيب: «لكلّ إنسان الحق في الكتابة والتعبير، لكن ليس كل تعبير يصل إلى مرتبة الفن. وبما لا شكّ فيه أن مواقع التواصل الاجتماعي أتاحت الفرصة للجميع في الوصول إلى كل دار، لهذا بات من الضروري تثقيف الجيل الجديد كي لا يقع ضحيةً لقراصنة يَدَّعون الشّعر والفن».
مشاركة :