القاهرة: نصر عبدالرحمن هو واحد من أهم شعراء بريطانيا في النصف الثاني من القرن العشرين، وأكثرهم تعبيراً عن الشعب الإنجليزي بعد الحرب العالمية الثانية، لقّبه النقاد والصحفيون والشعراء بأمير شعراء بريطانيا الثاني، وحصل على ميدالية الشعر الذهبية من ملكة بريطانيا. لا تزال قصائده موضع اهتمام النقاد والقراء حتى بعد وفاته بثلاثة عقود، كما اختارته مجلة التايمز كأعظم كاتب في بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وظهر اسمه في قائمة أهم مئة شاعر في تاريخ البشرية. ومن المثير للدهشة أنه حصل على تلك المكانة الرفيعة رغم زهده في الشهرة، وانعزاله عن المجتمع الأدبي، وقلة إنتاجه الإبداعي. ولد لاركن عام 1922 بمدينة كوفنتري، وكان طفلًا انطوائياً وشديد الانعزال بسبب ضعف بصره وتلعثمه في الحديث، وكانت سلواه الوحيدة هي مكتبة والده الكبيرة، درس الأدب الإنجليزي في جامعة أكسفورد، وعمل أمين مكتبة بعد التخرج، واستمر في هذا الوظيفة حتى بلغ الستين من عمره؛ لأنها أتاحت له التواجد بين الكتب، ووفرت له الوقت الكافي للقراءة والكتابة. أصدر لاركن ديوانه الأول سفينة الشمال عام 1945، وفي العام التالي أصدر روايته الأولى جل، وفي العام التالي أصدر روايته الثانية فتاة في العشرين. كانت بداية غزيرة، إلا أنها لم تلفت الانتباه إليه، وربما تعلم من تلك التجربة الاقتصاد في الكتابة، حتى أصبح أقل الشعراء إنتاجاً. كانت بدايته الحقيقية في عام 1955 بديوان الأقل تعرضاً للخداع، والذي منحه شهرة كبيرة، و يرى بعض النقاد أن السبب في هذا يرجع إلى تطوره وخروجه من عباءة الشاعر العظيم ويليام بتلر ييتس، فقد حاول تقليده في ديوانه الأول، لكنه امتلك الخبرة الفنية واللغوية في ديوانه الثاني، كما تجاوز تجاربه الذاتية، وانفتح على الواقع والتاريخ في هذا الديوان، الذي يراه البعض أصدق تعبير عن مُعاناة الشعب الإنجليزي بعد الحرب. استدعى الشاعر كذلك مشاهد تاريخية لإنجلترا في القرن التاسع عشر، وهي مشاهد تذكرنا بروايات تشارلز ديكنز عن بؤس الفقراء واستعباد الطبقة العاملة، في قصيدة الأقل تعرضاً للخداع، يفتتح بقصة تعرض سيدة فقيرة للاغتصاب، يناقش من خلال الواقعة فكرة سلسلة القهر التي يسعى فيها المظلوم إلى قهر شخص أضعف منه، وتشير القصيدة إلى أن المرأة الفقيرة تقع في نهاية سلسلة القهر. انتظر لاركن تسع سنوات كاملة قبل أن يُصدر ديوانه الثالث أعراس عيد العنصرة، الذي ضم اثنتين وثلاثين قصيدة، من بينها عدد من أعظم قصائده وأشهرها، حقق الديوان نجاحاً كبيراً ومنحه شهرة عالمية، نفدت الطبعة الأولى خلال شهرين فقط، ثم نفدت عدة طبعات أخرى في وقت قياسي في بريطانيا والولايات المُتحدة. أظهر الديوان مهاراته الفنية العالية، وسيطرته الكبيرة على اللغة، وقدرته على صياغة الرموز، وإثارة المشاعر، تعرض القصيدة التي تحمل اسم الديوان مشاهد من الريف الإنجليزي يرصدها راكب قطار، قبل أن ينتبه إلى حشد من الناس على إحدى المحطات في وداع عريس وعروس يستقلان القطار، في ذلك اليوم الذي تكثر فيه الأعراس يصف الراكب أنماط مَنْ حضروا لوداع العروسين مع الأهل والأقارب، ويحاول أن يتخيل كيف كان حفل الزفاف، ويمثل سقوط المطر في نهاية القصيدة رمزاً للأمل والخصوبة، إلا أن القصيدة توحي باشمئزاز الراكب الوحيد (المعزول عن العالم) من العروسين، أو من فكرة الزواج نفسها. تعكس القصيدة فكرة لاركن من الزواج والحياة عمومًا، فقد رفض الحب والزواج طوال حياته، واعتبر الأسرة مؤسسة فاشلة، وثارت أزمة بعد وفاته بسبب خطابات أرسلها إلى أحد أصدقائه، تكشف عن احتقاره للمرأة. يُرجع بعض من كتبوا سيرة حياته هذا الموقف إلى طفولته التعيسة، رغم تشجيع والده له على القراءة. لم يكتب لاركن عن فترة طفولته كما فعل أغلب شعراء إنجلترا في ذلك الوقت، إلا أن هناك إيحاءات قوية في قصائده عن طفولته التعيسة، وقسوة أبويه. لقد عاش لاركن حياة النُسّاك، بعيداً عن الناس طوال حياته، ولم يتزوج أو يظهر في مناسبات اجتماعية أو أدبية، ولم يقرأ قصائده على الجمهور، ولم يجب عن أسئلة الصحفيين إلا نادراً، ولم يكن لديه أصدقاء من الوسط الأدبي، ولم يُعرف عنه ممارسة هواية أو رغبة في السفر إلى الخارج. حرص لاركن على الابتعاد عن الشهرة والأضواء طوال الوقت، واقتصرت حياته على عمله في مكتبة جامعة هال، وكتابة الشعر فقط، حتى إنه رفض لقب أمير شعراء بريطانيا بعد وفاة جون بيتجمان عام 1984، حتى لا يُضطر للظهور في المناسبات العامة ووسائل الإعلام. بعد موت لاركن، زعم أحدهم أنه عثر على كراسة في حاوية قمامة، بها ديوان كامل غير منشور له، إلا أن المعروف أنه أصدر ديوانه الرابع نوافذ عالية عام 1974، أي بعد عشر سنوات كاملة من ديوانه الثالث، ضم الديوان قصيدته الأشهر على الإطلاق هكذا يكون الشعر، وفي عام 2009، استشهد أحد القضاة بأربعة أبيات من هذه القصيدة في حيثيات حكمه في قضية بشأن حضانة طفل بعد طلاق والديه، وهذا دليل على مدى تغلغل هذه القصيدة في وجدان جمهوره، كما تضم القصيدة أبياتاً شهيرة يشبه فيها فرحة الميت بالقبر بفرحة البحار حين يعود إلى اليابسة، وفرحة الصياد عند عودته من التلال. رفض لاركن النزعة الحداثية في الشعر وتمسك بالإطار الكلاسيكي الصارم كالوزن والقافية وطريقة تقسيم القصيدة، وتظهر قصائده تأثراً واضحاً بتقنيات ويليام بتلر ييتس، ورؤية توماس هاري للعالم. ورغم إخلاصه الشديد للشكل التقليدي في الكتابة، فإنه كان أكثر انفتاحاً على الواقع الاجتماعي وقدرة على تطوير المشاعر داخل نصوصه، ولقد اتسمت أبياته الشعرية بشدة الكثافة والإيجاز والإحكام، وتنطوي على سخرية لاذعة أحيانًا، كما كانت تقترب أحياناً من بنية الأمثال الشعبية، ما جعلها تجري على الألسنة وتتحول إلى مقولات شائعة يُستشهد بها في المواقف، وامتد تأثيرها إلى الجيل الحالي من المُراهقين الذين لا يعرف أغلبهم من هو لاركن، ورغم نزعته التقليدية، فإنه كان أكثر تفاعلًا مع التعبيرات اللغوية الدارجة في الستينات والسبعينات، وحرص بشدة على سلاسة ألفاظه؛ حتى عند تناول قضية ذات طابع فلسفي. كان لاركن قد قال في أحد تصريحاته القليلة، إن كتابته عن التعاسة هي سر شعبيته، وإن الحرمان في قصائده مثل زهور النرجس في قصائد وردزورث؛ في إشارة إلى كثرة تكراره. ورغم أن قصائده لا تحتوي على دراما فجة، ولا يظهر فيها أي انفعال مع اللحظات المؤثرة، فإنها تفيض بالحزن والأسى، وتعكس حالة من الكآبة والسوداوية. تعكس قصائده نوعًا من الشوق المكبوت إلى الحب والبهجة والجمال، ونستشف منها أن الحرمان هو نتيجة مُباشرة للهزيمة في معركة الحياة. لقد رسم لاركن صورة لهذا المهزوم كأنه ناسك ينظر إلى العالم الذي حُرم منه، عبر صومعته، ولا يملك سوى الرثاء لحاله.
مشاركة :