لن يختلف اثنان على أن أصوات المثقفين لا تطفو على سطح المطالبة بالحقوق والتشكي من الحرمان إلا في حالتين اثنتين: حين تقام مناسبة ثقافية كمؤتمر الأدباء ومؤتمر المثقفين ومهرجان عكاظ ومهرجان الجنادرية أو ما شابه ذلك، فنسمع تلك الأصوات تندد بظاهرة تكرار الأسماء، وتتململ من الموضوعات المطروحة، وتقلل من شأن المدعوين بشكل موسمي، وكأن لسان حالهم يقول: «نحن أحق بالدعوة»! والحالة الثانية هي موسم انتخابات مجالس إدارة الأندية الأدبية، تلك التي يصبح الحصول خلالها على عضوية عاملة بالتحديد هو الهدف الأهم ولو ضد أنظمة اللائحة، فالأندية تمنح عضويات مشاركة وعضويات فخرية لمن يحب الأدب وجلسات الثقافة والفكر لكن تلك العضويات لا تكفي المثقفين الطموحين الذين يضغطون من خلال الصحف أو التظلم للوزارة، أو للوزير ليرفع عنهم هذا الإقصاء الجائر ويستثنيهم من شروط اللائحة. تمنح الأندية الأدبية عضويتها العاملة كل عام، لكن الإقبال لا يظهر إلا في عام الانتخابات، والوجوه المطالبة بها لا تحضر بإصرار أي من الأنشطة أو الفعاليات، بل هي تمارس غياباً تاماً عن كل الفعاليات عن قناعة راسخة (عن بعد) بأن ما يُقدّم، في جميع الأحوال، هو دائماً مُملّ ومكرور، وأن هناك «شلة» بعينها تهيمن وتسيطر وتقصي فئة ما، ربما «المبدعون» أو هم «الشباب» أو هم «أصحاب الدماء الجديدة» أو غيرهم، المهم أن الأندية مخطوفة وأنها غير قادرة على تجسير الفجوة مع المجتمع أو تلبية طموحات أفراده. إذن، لدينا مثقفون لا يرتادون الأندية الأدبية لكنهم يطالبون بشراسة بالحصول على عضويتها العاملة في موسم الانتخابات، وهم كمثقفين أيضاً لا يبدون أدنى اهتمام بجمعية الثقافة والفنون ولا يدعمونها حتى بالحضور. ما هو سر انجذاب المثقفين لعضوية الأندية الأدبية العاملة وبالذات في مواسم الانتخابات؟ وما سر إعراضهم عن جمعية تحمل مسمّاهم وتفعّل اهتماماتهم وتجسّد قضاياهم؟ ما الذي يميز الأندية عن الجمعيات؟ الحقيقة البارزة أن جمعية الثقافة لا تلمَع ولا تُلمّع، فهي كيان نشط يعج بالحياة الثقافية والفنية وبها من إبداعات الشباب العامل ما يملأ القلب بالفخر والسعادة، لكنها كيان مظلم ومهمل ومتجاهل، فالجمعية لا تحظى بجزء مما تتمتع به الأندية من وهج وأضواء. الفارق كبير بين رئيس نادي مُبجّـل ومدير جمعية مكافح تعاني إدارته من تكلّس إداري ولائحة منقرضة ومن قحط وجفاف مادي، وفي حين ينعم النادي بميزانية مليون ريال سنوياً، فالجمعية لا تكاد تحصل على 50 ألف ريال سنوياً، بمعني أن هذا المبلغ الضئيل البائس قد لا يصل للجمعية من أصله. وقبل أن نظن أن الدولة تُفرِّق بينهما في الميزانية أقول: إن الملايين تُصرف للجمعيات لكنها تستقر عند إدارتها العامة التي لا تنقِّط منها على الفروع. أليس غريباً أن الأندية الأدبية لها حق تسلم ميزانيتها المليونية ودور مديرها لا يخرج عن المهام المكتبية، بينما تنتظر الجمعيات وساطة مجلس إدارة عليا؟ على مدى الست سنوات الماضية تسلمت مجالس إدارات الأندية مباشرة مبلغ 6 ملايين ريال، إضافة إلى مكرمة ملكية من الملك عبدالله رحمه الله بـ10 ملايين، ومجالسها تطالب بمكرمة الملك سلمان حفظه الله بـ10 ملايين أخرى، بينما الجمعيات تطالب بالـ50 ألف المتأخرة كثيراً!! جمعية الثقافة، بلا مقر ولا ميزانية ولا وهج إعلامي ولا مساندة من مسؤول أو من مثقف (همه عضوية عاملة بنادي أدبي)، تقف شامخة رغم كل شيء، فأهل الفن والثقافة الحقيقيون يتكاتفون ويعملون بها كالنحل، لأنهم مؤمنون برسالتهم، أهدافهم مخلصة ووجهاتهم محددة: ثقافة وفن في المقام الأول.
مشاركة :