الكواكبي والاستبداد (2) - مقالات

  • 9/1/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

ثلاثون عاماً من الجهد والعناء والبحث ليل نهار للعلامة عبدالرحمن الكواكبي، بعدها يصدر كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يُعد من أهم الكتب منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن، بل أرى أنه كنز لا يقدر بثمن. يتحدث الكواكبي عن علاقة الاستبداد بالأخلاق، قائلا: «إفراط الثروة مهلكة للأخلاق وهذا معنى الآية (كلا إن الإنسان ليطغى إذا رآه استغنى)، الطمع القبيح يخف عند أهل الحكومة العادلة، وفساد الأخلاق يزيد من حب الإسراف. تحصيل الثروة الطائلة في عهد الحكومة العادلة عسير جداً، إلا من طريق المراباة مع الأمم المنحطة أو التجارة التي فيها احتكار أو استعمار. وفي عهد الحكومات المستبدة يصير تحصيل الثروة بالسرقة بالتعدي على الحقوق العامة، وينحط الفرد في أخلاقه إلى ملاءمة المستبد الأعظم وأعوانه بأشياء من التملق وخدمة الشهوات والتجسس ونحو ذلك، وأعظم أبواب الثروة إذا حصل المنتسب على الخفايا والأسرار التي يخاف رجال الاستبداد من ظهورها، ويليه الاتجار بالدين، ثم الملاهي، ثم الربا الفاحش». وبعبقرية فذة يقول الكواكبي: «من طبائع الاستبداد أنه لا يظهر فيه أثر فقر الأمة ظهوراً بينا، إلا فجأة قريب قضاء الاستبداد نحبه، ذلك إن الناس يقتصدون في النسل، وتكثر وفياتهم، ويكثر تغربهم، ويبيعون أملاكهم من الأجانب، فتكثر النقود بين الأيدي لكنها تشبه نشوة المذبوح». ومن طبائع الاستبداد إن«الأغنياء أعداؤه فكرا، وأوتاده عملا، فهم ربائط المستبد، يرسخ الذل في الأمم التي يكثر أغنياؤها، أما الفقراء فيخافهم المستبد خوف النعجة من الذئاب، فيتحبب إليهم ببعض الأعمال التي ظاهرها الرأفة، وكذلك الفقراء يخافون المستبد خوف البغاث من العقاب، وقد يبلغ فساد الأخلاق في الفقراء أن يسرهم رضاء المستبد عنهم بأي وجه كان. الاستبداد يستولي على العقول الضعيفة، فضلاً عن الأجسام، فيفسدها كما يريد ويتغلب على الأذهان الضئيلة فيشوش فيها الحقائق كما يهوى». كل يوم أسمع من يتحسر على الماضي ويسأل لماذا فسدت الأخلاق؟ ويجيب الكواكبي: «المستبد يرى النفاق سياسة، والتحيل كياسة، والدناءة لطفا، والنذالة دماثة، الاستبداد يُفسد الأخلاق، لأنه يغيب العدالة الاجتماعية، ويجعل المواطن العادي خانعا ذلولا له، إما بسبب الحاجة واما بسبب الخوف، واما بسبب الطمع. الاستبداد يجعل طالب الحق فاجرا، وتارك حقه مطيعا، والمشتكي المتظلم مفسدا ومحرضا، والنبيه المدقق ملحدا، والخامل المسكين صالحا. الاستبداد يُفقد الشهامة لا الشراسة، ويربي الصغير والجاهل على الطاعة والانقياد، عن خوف وجبانة». وبوصف دقيق، يقول الكوكبي: «الأخلاق بذرها الوراثة وتربتها وسقياها العلم، والقائمون عليها رجال الحكومة، وعليه تفعل السياسة في أخلاق البشر ما تفعله العناية في إنماء الشجر، فإذا بُليت ببستاني لا يعنيه إلا عاجل الاكتساب أفسدها وخربها، وإن صادفت بستاني يهمه بقاؤها وزهورها، قويت وأينعت ثمارها. أسير الاستبداد يعيش كالريش يهب حيث يهب الريح، لا نظام ولا إرادة، والإرادة أم الاخلاق، والأسير أدنى من الحيوان، لأنه يتحرك بإرادة غيره، وأقل ما يفعله الاستبداد في أخلاق الناس، حتى الأخيار منهم، الأُلفة على الرياء والنفاق، ويعين الأشرار آمنين من كل تبعة ومسؤولية. فالشرقي الخائن يأمن الأفرنجي في معاملته، ويثق بوزنه وحسابه، ولا يأمن بابن جلدته وكذلك الأفرنجي الخائن. الباحثون يقولون: الشرق مريض بسبب الجهل، أو بسبب فقد التمسك بالدين، أو بسبب فساد الأخلاق أو بسبب فقد التربية، والحقيقة ان المرجع الأول في الكل هو الاستبداد الذي يمنع الباحثين عن التصريح باسمه المهيب، فساد الأخلاق يعم المستبد وأعوانه ثم يدخل بالعدوى إلى كل البيوت». لماذا قال الشيخ محمد عبده مقولته: وجدتُ الإسلام في ديار غير المسلمين؟ ولماذا نرى في العالم العربي والإسلامي أخلاقيات بعيدة عن الدين؟ يشخّص الكواكبي علاقة الدين بالأخلاق: «الدين بذر جيد إذا صادف مغرسا طيبا نبت ونما، وإن صادف أرضا قاحلة مات وفات، أو صادف أرضا مغراقا هاف الاستبداد بصرها وبصيرتها، وأفسد أخلاقها ودينها حتى صارت لا تعرف للدين معنى غير العبادات. الدين يفيد الترقي الاجتماعي إذا صادف أخلاقا فطرية لم تفسد، فينهض كما نهضت الإسلامية بالعروبة». رحمك الله أيها الكواكبي، لقد عرف المستبد من يختار لكي يغتاله غيلة، لكنك ستبقى حياً تؤرق دائما كل الظالمين والمستبدين حتى وأنت في قبرك الذي نقش عليه الشاعر حافظ إبراهيم بيتين، يقول فيهما: «هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى هنا خير مظلوم خير كاتبِ قفوا واقرؤوا أم الكتاب وسلموا عليه فهذا القبر قبر الكواكبي». aalsaalaam@gmail.com

مشاركة :