الكواكبي هذا الفقيه والعالم والفيلسوف والعبقري، اغتيل وهو لم يتجاوز الخمسين من عمره. وباغتياله خسرت الأمتين العربية والإسلامية، رجلاً لا يعوض أبداً. يُشخّص الكواكبي العلاقة بين التربية والاستبداد، قائلا: «الخصال ثلاثة: الطبيعية الحسنة كالصدق والأمانة والرحمة، والخصال الطبيعية القبيحة كالرياء والقسوة والجبانة. والخصال الكمالية التي جاءت بها الشرائع الإلهامية، كالعفو وتقبيح الطمع والزنى وغيرها. والخصال الاعتيادية، أي ما يكتسبه الإنسان بالوراثة أو التربية. أسير الاستبداد يرث شر الخصال ويتربى على أشرها، ومن طبائع الاستبداد ألفة الناس على الأخلاق الرديئة». كنت دوما أسأل نفسي، لماذا في مجتمعنا العربي كله يهرول الفرد لأداء العبادات من صلاة وصيام وغيرها، في حين يمارس كل لحظة عكس القيم التي جاء بها الدين، كالكذب والغش والسرقة والنفاق، ويبتعد عن القيم التي يحث عليها الدين كالنظافة والانضباط والنظام والاتقان وغيرها؟ فيجيب الكواكبي قائلا: «الاستبداد ريح صرصر فيه إعصار يُجّهل الإنسان كل ساعة، وهو مفسد للدين في أهم قسميه أي الأخلاق، أما العبادات فلا يمسها المستبد لأنها تلائمه أكثر، لهذا تبقي الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجردة صارت عادات لا تفيد في تطهير النفوس، ولا تنهى عن فحشاء ولا منكر، كفقد الإخلاص فيها تبعا لفقده في النفوس التي ألفت أن تتلوى بين سطوة الاستبداد في زوايا الكذب والرياء والنفاق والتملق، ولهذا لا يستغرب في الأسير الأليف الرياء أن يستعمله مع ربه ومع أبيه وأمه وقومه وحتى مع نفسه. الاستبداد يربي الناس على استباحة الكذب والخداع والتذلل، وإلى إماتة النفس، ونبذ الجد وترك العمل، والاستبداد يتولى تربية الناس على هذه الخصال الملعونة، فيرى الآباء أن تعبهم في تربية أبنائهم يذهب عبثا تحت أرجل الاستبداد. إن الأمم التي يسعدها جِدها لتبديد استبدادها تنال من الشرف الحسي والمعنوي ما لا يخطر على فكر أسرى الاستبداد، فهذه بلجيكا أبطلت التكاليف الأميرية برمتها، وهذه سويسرا يصادف كثيرا ألا يوجد في سجونها محبوس واحد، وهذه اليابان أصبحت تسنزف قناطير الذهب من أوروبا وأميركا ثمن امتيازات اختراعاتها». قدم الكواكبي 25 مبحثاً على هيئة أسئلة للبحث والتدقيق، تشمل: مبحث الأمة ومفهومها، الحكومة ونوعيتها ووظائفها، الحقوق العامة والتساوي فيها، الحقوق الشخصية، حقوق الحاكمية، طاعة الأمة للحكومة، توزيع التكليفات، إعداد المنعة والقوة، المراقبة على الحكومة، حفظ الأمن العام، حفظ السلطة في القانون، تأمين عدالة القضاء، حفظ الدين والآداب، تعيين الأعمال بالقوانين، كيفية وضع القوانين، القانون وقوته، توزيع الأعمال والوظائف، التفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليمية، الترقي في العلوم والمعارف، التوسع في الزراعة والصناعة والتجارة، السعي في العمران، والسعي في رفع الاستبداد. وكم أحرى بالباحثين التوغل في هذه الأسئلة للإجابة التحليلية عنها. وفي ألف باء السياسة، يقول الكواكبي عن كيفية التخلص من الاستبداد: «الإنسان مر بمراحل عدة منها دور الافتراس ودور الاقتناء، وتعريف الاستبداد: هو الحكومة التي لا يوجد بينها وبين الأمة رابطة معلومة مصونة بقانون نافذ الحكم. فالمستبد لا يوثق معه بوعد ولا بعهد ولا بيمين، والأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية. فالأمة التي ُضربت عليها الذلة والمسكنة تصير سافلة الطباع كالبهائم أو دونها، لا تسأل عن الحرية ولا تلتمس العدالة ولا ترى في الحياة وظيفة غير التابعية». وأول شرط لغلبة الاستبداد: «يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ما يستبدل به، بهدوء وروية ودون جلبة». وكأن الكواكبي يُشخّص الوضع الحالي بعد الربيع العربي قائلا: «الحرية التي تنفع الأمة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، أما التي تحصل على إثر ثورة حمقاء قلما تفيد شيئا، لأن الثورة غالبا تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها، فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت». «الاستبداد لا يقاوم بالشدة بل باللين والتدرج، لأن الاستبداد محفوف بأنواع كثيرة من القوات منها: قوة الإرهاب بالعظمة، وقوة الجند خصوصاً غريبي الجنس، وقوة المال، وقوة الألفة على القسوة، وقوة رجال الدين، وقوة أهل الثروة والأغنياء، وقوة الأنصار من الأجانب»، ونضيف عليها قوة الإعلام، لذا لا ينبغي أن يقاوم الاستبداد بالعنف كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصدا. aalsaalaam@gmail.com
مشاركة :