هل هنالك ما هو أشد قتامة من صراعات هذه الأيام، ومن نشرات الأخبار اليومية التي عادة ما تبدأ بالفعل المبني للمجهول (قُتِلَ)؟ فوضى عارمة اتسع فيها الخرق على الراتق، ويمكنها أن تشرح ببلاغة عبارة إميل سيوران «المياه كلها بلون الغرق». فهل تترك تلك الفوضى مساحة لقليل من الأمل؟ سؤال ــ مفتوح على كثير من الاحتمالات ــ أوحى به إلي كتاب نانسي هيوستن «أساتذة اليأس». الكتاب الذي تناولت فيه سيرة وإنتاج مجموعة من الفلاسفة والكتاب نظروا إلى الوجود من خلال منظار قاتم. فهل كانوا يائسين حقا؟. هذا ما يَشِي به عنوانُ الكتاب. لكن اليأس والرغبة في الإنتاج الفكري والأدبي لا يلتقيان، ولذلك تلاحظ هيوستن تناقض العنوان الذي اختارته لكتابها مع ما قدمه أولئك الكتاب للثقافة العالمية من إضافات. فلو كانوا يائسين لما دخلوا مَصْهَر الكتابة بشكل يومي، وكرَّسوا حياتهم للإبداع. «إذا كنا يائسين، تقول هيوستن، فإننا لن نبشر بشيء. سنغرق في الصمت تاركين أنفسنا ننزلق نحو الموت. أن تكتب فهذا يعني مسبقا أن تتأمل، وأن تُقَدّر، بالنتيجة، أن شيئا ما يستحق العناء». وإذا كان الأمر كذلك، فإن اليائس حقا هو من يمتهن صناعة الموت، ولا يرى على هذه الأرض ما يدفعه للتشبث بالحياة، وهو من فقد الصلةَ بكل ما هو جمالي، وأصيب بعمى ألوان ثقافي لا شفاء منه. غير أن هذه مقارنة عبثية وغير عادلة بين من يؤلف كتابا، ومن يحرق مكتبة، أو بين من يرسم لوحة ومن يدمر متحفا. للحلم ما يغذِّيه دائما، لا لأن الغوغائية والحماقة سوف تختفيان بشكل نهائي، ولا لأن الغباء سوف يحمل عصاه ويرحل. بل لأن اليأس يعني الموت. هنالك دائما مساحة للحلم. حلم على طريقة الشعراء، وليس على طريقة مهندسي «الفوضى الخلاقة». فقد مرت البشرية بعصور أشد عتمة، وتجاوزت محنها. وهو الوضع نفسه الذي عبرت عنه الشاعرة ماري كولريدج وهي تشير في إحدى قصائدها إلى بعض الانهيارات الحضارية الكبرى، ثم تختتم النص باستدراك راشح بالتفاؤل: «لكن الأحلام التي طافت في خيالات أطفالها (أطفال الحضارات المنهارة) هي التي بقيت بالرغم من كونها عابرة وغير ملموسة». ولم يكن نجيب محفوظ أقل تفاؤلا من كولريدج حين خاطب لجنة جائزة نوبل للسلام بقوله: «مع كل ما يجري حولنا فإنني ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية. لا أقول مع الفيلسوف (كانت) إن الخير سينتصر في العالم الآخر. غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت، وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره». نعم، للتفاؤل ما يبرره، لأن صناع الفوضى عابرون في مرحلة عابرة، وهم حالة طارئة بأجندات تتعارض مع السلوك البشري السوي، وبِقِيَم تناقض القيم الكونية المشتركة. ويبدو أن أولئك الذين أطلقت عليهم هيوستن مسمى «أساتذة اليأس» لم يكونوا يائسين، وإنما كان يحركهم مزيج من الغضب والتشاؤم والحيرة والضجر. وهذا ما ينتاب كل شخص سوي يشاهد، هذه الأيام، ما تبثه نشرات الأخبار من فظائع. بدأت هذه الكتابة بعبارة لإميل سيوران، وسأختمها بعبارة أخرى تعبر عما نشاهده يوميا من أحداث. ففي إحدى شذراته يقول: «دون كيخوته يمثل شباب حضارة يخترع أحداثا. أما نحن فلم نعد نعرف كيف ننجو من الأحداث التي تضغط علينا». فهل كانت تلك الكتابات محاولات للبحث عن مخرج من المتاهة؟ ربما.
مشاركة :