القاهرة: الخليج نال آدم سميث من التكريم والنجاح في حياته، وبعد مماته، ما لم ينله إلا عدد نادر من الكتّاب في العلوم الاجتماعية، وقد ذهب بعض المؤرخين الاقتصاديين إلى اعتبار آدم سميث أباً لعلم الاقتصاد السياسي ومؤسساً لمبادئه، بينما ينكر البعض عليه صفات الإبداع، ويضعونه في مصاف الناقلين، ويرى د. عبد المنعم الطناملي في تراث الإنسانية أن في الرأيين مبالغة، فالمسائل الاقتصادية قد شغلت تفكير الفلاسفة ورجال السياسة منذ أقدم العصور، وكان للقدماء والمحدثين ممن سبقوا آدم سميث آراء يختلط بعضها مما قاله، فالبحوث الاقتصادية أقدم بكثير من آدم سميث ، كما أن التوافق بين ما جاء في كتابه ثروة الأمم وما كتبه سابقوه لا يضعه في مركز الناقل غير المجدد، فعلم الاقتصاد جمع وتبلور في كتاب ثروة الأمم على نحو لم نشهده في كتاب سابق عليه. وقد قدمت المعالم الأساسية لفلسفة آدم سميث الاقتصادية إلى العالم في الربع الأخير من القرن الثامن عشر تفسيراً معقولاً للظواهر الاقتصادية، ووضعت أساساً منطقياً لسياسة اقتصادية تتماشى مع ظروف تلك الحقبة واحتياجاتها ، غير أن هذا وحده ما كان يكفي لإيصال آدم سميث إلى قمة المجد التي بلغها، فقد تعرّض لتحليل ظاهرة تقسيم العمل وبيان العوامل المؤثرة فيها، كما ناقش نظرية النقود، وتعرّض لمشكلة القيمة ولموضوع قيمة المبادلة ولطريقة تحديد الثمن في السوق وللثمن الطبيعي أو الحقيقي الذي يدور حوله سعر المبادلة. وأدلى في هذا الصدد بنظرية قيمة العمل التي كانت أساساً للمذهب الاشتراكي الذي قال به كارل ماركس فيما بعد، كما أدلى أيضا بنظرية نفقة الإنتاج، وبنظريات في الأجور والسكان، وتعرض بالنقد لمذهب التجاريين، وبيّن أسس التجارة الدولية، ومزايا حرية التجارة، كما أنه تعرّض بطريقته الخاصة لمختلف المشكلات الاقتصادية، وحاول أن يربط بين الظواهر الاقتصادية بتفسير نظري متماسك والصفة التلقائية للظواهر الاقتصادية، وفتح بذلك السبيل إلى التركيز على دراسة القوانين الاقتصادية. وما ساعد على تعميق أثر آدم سميث أن من سبقه من الكتّاب في فرنسا وبريطانيا قد مهّدوا له السبيل إلى النجاح، هذا إلى جانب أن قيام ثورة الاستقلال الأمريكية ونجاحها، كان سبباً لزيادة المبادلات وازدهارها بين بريطانيا ومستعمراتها الأمريكية القديمة بعد أن تحررت، فإقامة العلاقات بين هذين البلدين على أساس من الحرية قد يأتي بنتائج أفضل وأكثر ربحاً، بالنسبة للدولة التي فقدت سيطرتها الاستعمارية. كل ذلك أوجد حجة عملية كبيرة تسند فلسفة النظام الطبيعي القائم على الحرية، وكذلك فإن قيام الثورة الفرنسية وقضاءها على النظام القديم في فرنسا، بما كان يتضمنه من تنظيمات عتيقة للنشاط الاقتصادي، رفع فلسفة الحرية بكل صورها إلى مصاف العقائد الثابتة في نهاية القرن الثامن عشر، ومكّن لهذه العقيدة من أن تحكم الفلسفة والسياسة والاقتصاد قرابة قرن من الزمان، ومكّن بالتالي لآدم سميث، أكبر المنادين بمبادئها في النطاق الاقتصادي، أن يجد سبيله إلى مكان الصدارة بين الطلائع الموجهة للفكر الإنساني، وكذلك أدت الثورة الصناعية إلى إيجاد توافق تام بين مصالح الرأسماليين وأصحاب الصناعة وبين فكرة الحرية الاقتصادية طوال القرن التاسع عشر، ما دعم أثر آدم سميث ومد ظله على هذا القرن كله. وكان انتشار مذهب الحرية الاقتصادية وتحوله إلى سياسة عملية تكاد تكون عالمية، طوال القرن التاسع عشر، وخلال الربع الأول من القرن العشرين، قد مكّن لبعض المصالح من أن تتحكم تحكماً كان آدم سميث نفسه يتوقعه.
مشاركة :