بين «النهضة» التونسيّة و«إخوان» مصر

  • 9/15/2016
  • 00:00
  • 31
  • 0
  • 0
news-picture

عاد الى دائرة الضوء في مصر، الجدل حول إشكاليات تطور جماعات «الإسلام السياسي»، بخاصة الأسئلة الوثيقة الصلة بمسار جماعة «الإخوان المسلمين» منذ انتفاضة كانون الثاني (يناير) ٢٠١١. تُجرى هذه المناقشة بعد أن خاضت حركة «النهضة» في تونس جدالات فكرية عميقة قبل مؤتمرها العام في أيار (مايو) الماضي وأثناءه. تمحورت النقاشات التمهيدية للمؤتمر حول الفصل بين السياسي والدعوي، والتوجه نحو التخلي عن ممارسة النشاط الدعوي لتقوم به جمعيات أهلية منفصلة تماماً عن حركة «النهضة»، ومن ثم التحول إلى حزب «مدني» سياسي، أقرب الى نمط الأحزاب «المسيحية الديموقراطية» في أوروبا. قاد هذا الصراع الفكري غير المسبوق داخل جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي منذ نشأتها أوائل القرن الماضي، راشد الغنوشي، الزعيم السياسي التاريخي لـ «النهضة»، حتى قدر لهذا التوجه تحقيق انتصار حاسم في المؤتمر العام، وبدء مسيرة الألف ميل على طريق يكف فيه الدين عن أن يشكل بالنسبة الى «النهضة» مرجعاً إلزامياً لبرنامج وسياسات الحركة وممارساتها، بخاصة في ما يتصل بنمط نظام الحكم في تونس والنظام القانوني وموقع غير المسلمين والنساء فيه، وغيرها من الأمور الحيوية. وألا يشكل الإسلام أكثر من مصدر إلهام قيمي عام للحزب «المجدد»، الأمر الذي قد يفسح المجال أمام «النهضة» ليصير تدريجياً الحزب السياسي الرئيسي لليمين المحافظ غير الديني فى تونس، وأن يعود الى الحكم بغالبية أكبر وبقاعدة اجتماعية أعرض وأكثر رسوخاً. لعبت حركة «النهضة» دوراً حيوياً بوصفها حركة إسلامية متطورة ومنفتحة للتغيير، مقارنة بمثيلاتها في العالم العربي - في المساهمة في إنجاح «النموذج التونسي» في سياق الربيع العربي، مثلما ساهم جمود جماعة «الإخوان المسلمين» وانتهازيتها في صنع الفشل المرير في مصر. غني عن القول أن العامل الحاسم في النجاح في تونس والفشل في مصر، كان لاختلاف الأدوار التي لعبتها نخبة المؤسسة العسكرية في الدولتين في المسارين منذ كانون الثاني 2011. جدير بالذكر، أن» النهضة» وقبل مؤتمرها العام بأكثر من عامين، قامت بعملية إعادة تقييم شاملة، وبمراجعة سلوكها السياسي. وقررت بناء على ذلك، الاستجابة للمطلب الشعبي الجارف بالتخلّي عن الحكم، ومراجعة استراتيجيتها السياسية وتحالفاتها ومفردات خطابها السياسي. جرى ذلك في ضوء تطورين مهمين: الأول، تصاعد المعارضة الشعبية في تونس ضد حكومة «الترويكا» التي كانت قد شكلتها «النهضة» بوصفها حزب الغالبية البرلمانية. والثاني، الفشل الذريع لجماعة «الإخوان المسلمين» في حكم مصر، وانهيار شعبيتها وإطاحة الجيش رئيس الجمهورية المنتخب. في مصر، عجزت جماعة «الإخوان» حتى أن تلحظ فشلها السياسي الذريع، أو أن تدرك لاحقاً أسبابه ومسؤوليتها عنه، بعد أن اختزلت الانفضاض الشعبي الهائل عنها بـ «مؤامرات» أجهزة «الدولة العميقة» والمؤسسة العسكرية. لم يتأثر هذا الجمود الفكري والعجز السياسي بإطاحة حكمها بعد عام واحد فقط، بل أدت هذه التطورات الى هيمنة سيكولوجية «الضحية» على ما بقي من «عقل» للجماعة. وانحسرت تصورات الاتجاهين البارزين في الجماعة فى نطاق رد الفعل، سواء كان «سياسياً» أم «مسلحاً». بالطبع ليست منطقية مطالبة جماعة «الإخوان المسلمين» بأن تنسخ كل مراجعات حركة «النهضة» وأن تتبناها، على رغم أن المراجعات ذات الطابع الأيديولوجي التي اقترحت من «النهضة» على مؤتمرها، تصلح أيضاً كإطار للمراجعات ذات الطابع الأيديولوجي المنتظرة من كل جماعات الإسلام السياسي غير العنفية في العالم العربي. وعلى رغم أن كلاً من «النهضة» و»الإخوان» ينتمي الى تيار «الإسلام السياسي»، بل كانت «النهضة» عضواً في التنظيم الدولي لـ «الإخوان المسلمين» تحت قيادة الجماعة المصرية، إلا أن هناك اختلافاً في مستوى تطور المجتمعين المصري والتونسي، واختلافاً آخر في البيئة السياسية والثقافية، وثالثاً في المسارات السياسية للحركة والجماعة، ورابعاً في طبيعة الأخطاء الجسيمة المرتكبة، الأمر الذى يفرض طابعاً خاصاً للمراجعات ذات الطابع السياسي، التي ينتظر أن تشرع فيها جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر. تستوجب الفترة بين ٢٥ كانون الثاني ٢٠١١ و3 تموز (يوليو) ٢٠١٣، من «الجماعة» وكل مؤرخ موضوعي وقفة خاصة. فهي تكشف بوضوح لا لبس فيه عن طبيعة الخيارات الاستراتيجية - السياسية لا الدينية - الحقيقية للجماعة، التي كانت دفينة في زمن «التقية» قبل الثورة. خلال هذه المرحلة التاريخية، صارت الجماعة نجماً صاعداً ثم «سيداً»، تتمتع خلالها في شكل مباشر أو غير مباشر بوزن حاسم في مؤسسات رئيسية لصنع القرار في مصر، مثل لجنة وضع تعديلات الدستور (آذار/ مارس ٢٠١١) ومجلس الشعب ومجلس الشورى والهيئة التأسيسية لوضع الدستور (٢٠١٢)، وأخيراً التربع على كرسي رئاسة الجمهورية. كانت هناك بالطبع صراعات مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي حكم البلاد من ١١ شباط (فبراير) ٢٠١١ الى ٣٠ حزيران (يونيو) ٢٠١٢. لكنها كانت تنتهي دائماً بتفاهمات واتفاقات معلنة أو غير معلنة، وعلى حساب القوى الرئيسية التى بادرت بانتفاضة ٢٥ يناير. لم يحتدم الصراع بين الطرفين قبل حزيران ٢٠١٣ إلا في وقت متأخر، أي في ربيع ٢٠١٢، عندما تراجعت الجماعة عن تعهدها بعدم تقديم مرشح لها في انتخابات رئاسة الجمهورية. بينما طوال العامين الحاسمين التاليين لانتفاضة ٢٥ يناير، كان الخطاب السياسي للجماعة ومواقفها السياسية اليومية تقدم المساندة للجبهة التي يقودها المجلس الأعلى للقوات المسلحة. في هذا السياق، من الضروري للجماعة أن تعود أيضاً الى تأمل البرنامج السياسي الوحيد المعلن لها، الذي أزيح الستار عنه في خريف عام ٢٠٠٧. إن أخطر الجرائم ذات الطابع «الأيديولوجي» التي ارتكبتها الجماعة خلال وضع دستور مصر ٢٠١٢ تحت هيمنة غالبيتها في الهيئة التأسيسية، تجد مصدرها فى هذا البرنامج، الذى يستوحي نمط حكم شمولي، يوظف فيه الدين لضمان وتكثيف الطابع التوليتاري للحكم. لقد زعمت الجماعة حينذاك، أنها مضطرة لتقديم تنازلات للسلفيين من أعضاء الهيئة التأسيسية، لكن الحقيقة أن الجماعة كانت حينذاك تستلهم وتطبق في شكل تدريجي «دستورها» المعلن قبل خمس سنوات. على الأرجح، سيكون الخاسر الوحيد في أي مراجعة جادة تقوم بها جماعة «الإخوان المسلمين»، هو هيئتها القيادية التي أدارت هذه المرحلة التاريخية، وقادت خلالها الجماعة في عملية انتحار أخلاقي قبل أن يصير انتحاراً سياسياً، لتصبح صيداً سهلاً في مرمى كتائب الإعدام السياسي ثم البدني لأجهزة «الدولة العميقة». أما الجماعة ذاتها، فقد تُكتب لها شهادة ميلاد جديدة من خلال هذه المراجعة. ستكون عملية قاسية لا شك في ذلك، لأنها ستتطلب قبل كل شيء القدرة على أن تضع الجماعة نفسها وجهاً لوجه أمام المرآة. يفاقم من صعوبة المهمة وقسوتها، افتقار الجماعة في هذه اللحظة، ومنذ زمن طويل، الى شخصيات قيادية كاريزمية تتمتع باتساع الأفق ومؤهلة لإدارة هذه العملية الاستراتيجية، وقادرة على إنجاز مراجعات جادة بينما في الوقت نفسه، تجرى محاكمات ممتدة لسنوات للقيادة الرسمية للجماعة، فضلاً عن أنه لا صلة لها بالجرائم الحقيقية التى ارتكبتها أبرز شخصيات هذه القيادة.     * كاتب مصري

مشاركة :