عندما يتحدث الناس عادة عن «أوبرا القروش الثلاثة» لا يمكن لهم إلا أن ينسبوها إلى برتولد بريخت. فـ «الأوبرا» ارتبطت باسمه إلى درجة لم يعد من الممكن نسبتها إلى اسم أي شخص آخر. ومع هذا من المعروف أن الأوبرا، منذ فجر العصر الأوبرالي، تنسب إلى مؤلف موسيقاها، لا إلى مؤلف كلماتها. ومن هنا واضح أن ثمة ظلماً يحيق بالموسيقي الذي كتب الألحان العذبة والقوية التي تحتضن هذا العمل الاستعراضي المهم. وهذا الموسيقي هو كورت فايل. > ولئن كان بريخت قد عاد إلى ألمانيا بعد منفاه، وعاش آخر سنواته في وطنه، فإن فايل لم يقيّض له ذلك، بل مات في منفاه النيويوركي في العام 1950، في وقت كان يقول للمقربين منه أن أمنيته الكبرى هي العودة إلى ألمانيا وتقديم أعماله فيها. لكنه مات شاباً في الخمسين من عمره، منفياً، وحزيناً أيضاً لأن شهرته، لا سيما خلال السنوات الأخيرة، لم تصل إلى شهرة زملائه الكبار. طبعاً بعد ذلك أُعيد الاعتبار الفني لكورت فايل على أكثر من صعيد، وصار يعتبر واحداً من كبار موسيقيي القرن العشرين. > منذ بداياته عرف كورت فايل بنزعته الثورية، فهو المولود في ديشاو في 1900، كان لا يزال يافعاً حين تمرد على أهله وتوجه إلى برلين حيث درس مع الموسيقيين الكبيرين آلن برغ وانغلبرت همبردنغ. وخلال العامين 1919 - 1920 قاد الأوركسترا الأوبرالية في ديشاو، ثم تحول مرة أخرى إلى برلين حيث تابع دراسته وبدأ يؤلف قطعاً للآلات الوترية، وكانت قطعه الأولى تجريبية وتجريدية. أما الأوبرا الأولى التي لحنها فكانت بعنوان «الأطراف» وهي من فصل واحد أنجزها في 1926. وفي العامين التاليين أنجز عملين أوبراليين آخرين، جعلاه يعتبر مع بول هندميث، أفضل مؤلف أوبرالي شاب في ألمانيا. وكانت تلك هي المرحلة التي التقى فيها ببريخت وبدأ التعاون معه، وكان أول عمل لهما هو «صعود وسقوط مدينة ماهاغوني» (1927) الذي يسخر من الحياة في مدينة أميركية متخيلة. وفي العام التالي، كانت «أوبرا القروش الثلاثة» المأخوذة عن مسرحية للإنكليزي جون غاي، وهي أوبرا تدور أحداثها في برلين القرن العشرين وفي أوساط الحثالة، وقد كتب لها فايل موسيقى سرعان ما اشتهرت في أوروبا كلها، بل فاقت شهرتها شهرة المؤلف الموسيقي نفسه، خصوصاً أنها سرعان ما ترجمت إلى 11 لغة وتعرف العالم كله إلى موسيقاها معتبراً إياها موسيقى الحداثة الألمانية نفسها. > ولئن كانت «أوبرا القروش الثلاثة» قد اشتهرت وتعددت الكتابة عنها، فإن سابقتها «صعود وسقوط مدينة ماهاغوني» لم تنل حظاً كبيراً من الشهرة إلا في النطاق البريختي. ومن هنا سيكون من الإنصاف دائماً التوقّف عند هذا العمل من منظور موسيقاه التي أتت تجـــديدية حتى ضمن إطار التجديد الهائل الذي عرفته المــوسيقى الأوبرالية خلال الثلث الأول من القرن العشرين، بخاصة أن فايل الذي كان حينها يخوض تجربته الأولى مع بريخت، حرص على أن يضع فيها كل ما كان قد اختبره في مجال اللغة الموسيقية مطوّراً ما كان قد بدأه آلبن برغ ورفاقه في فيينا في ذلك الحين، وممهّداً لما سوف يختبره هو نفسه لاحقاً في موسيقاه «الأميركية» التي طبعت نتاجاته في العالم الجديد ولا سيما في مجال المزج المدهش بين موسيقى الكاباريه البرلينية والجاز الأميركي. > كانت «ماهاغوني» في الأصل تطويراً لمغناة صغيرة قدمها فايل في العام 1927 في بادن بادن. غير أن ذلك العمل سرعان ما اتخذ شكله شبه النهائي الذي نعرفه، وإن مطوَّرا مرات عديدة اليوم، شكل العمل الأوبرالي الذي سيقول النقاد لاحقاً أنه في حقيقته عمل يسخر من الأوبرا من الداخل. ويحاول في مقابل «نخبوية الأوبرا وبلادتها» أن يقدم عملاً شعبياً مشاكساً، تماماً كما ستكون الحال، بعد حين، مع «أوبرا القروش الثلاثة». وتدور أحداث «ماهاغوني» في الغرب الأميركي من خلال حكاية لأصحاب سوابق كانوا متجهين للبحث عن الذهب، لكنهم يهربون من القطار ومن حراسة الشرطة لهم ليستقروا في مكان أجرد صحراوي وقد قرروا أن يحولوا المكان الى صرح للهو والفجور، الى ما يشبه «المدينة الفخّ» التي تصطاد الناس وأموالهم حيث سيكون، كما تقول واحدة من أغنيات البدايات «دجن وويسكي وفتيات وفتيان وقمار» ويهيمن سلام داخلي محوره فندق للأثرياء وبيوت هوى... ويتلو ذلك بدء تدفق الزبائن بجيوبهم العامرة بالدولارات... وفي البداية تسير الأمور على أفضل ما يكون، فيحقق الرأسماليون أرباحاً هائلة ويلتقط شتى أنواع العاملين الفتات كما يحدث في أرقى أزمان الاقتصادات البورجوازية. ولكن أيضاً كما يحدث في هذه الأخيرة، يبدو من الواضح أن المال الذي يتحقق أرباحاً إنما يستقر في عدد قليل من الجيوب فيما يتدفق الناس الفضوليون والباحثون عن الفرص والأفاقون من كل حدب وصوب مساهمين كل منهم على طريقته في ازدهار المدينة. ولكن وكما يحدث دائماً... يزداد عدد الباحثين عن الثروات ويقل عدد الحاصلين عليها بحيث إن الأمور سوف تنتهي بانفراط ذلك «الحلم الرأسمالي» المدهش. ويتبدى ذلك من خلال حكاية المدعو بول آكرمان الذي بعدما يجمع الثروة في شكل سريع، يراها تنضب في شكل أكثر سرعة ما يجعله عاجزاً عن سداد ديونه وتكون محاكمته والحكم عليه بالإعدام، إرهاصاً بنهاية ماهاغوني حيث يتجمع الفقراء وخائبو الأمل والفاقدون ثرواتهم لينتفضوا مشعلين الحرائق في تلك المدينة العجائبية في مشهد أخير تُرى فيه ماهاغوني وهي تحترق على وقع أغنية تقول: مع الحياة الغالية/ الكل ضد الكل/ مع الإبقاء على الكابوس في مدننا/ مع الاستيلاء على ممتلكات الآخرين. مع الاقتسام العادل لممتلكات السماوات/ ومع اقتسام غير عادل لممتلكات الأرض الدنيوية». > منذ قدم فايل - بريخت هذا العمل متّبعينه بـ «أوبرا القروش الثلاثة»، ساد إجماع من حول التجديد الذي قدماه ولا سيما في «ماهاغوني». غير أن الإجماع الذي ساد بالنسبة الى فايل بخاصة من حول هذين العملين سرعان ما انفرط بالنسبة لأعمال كورت فايل التالية، حيث بدا وكأنه يكرر نفسه. مهما يكن فإن مشكلات فايل في تلك الآونة لم تكن فنية بحتة، بل كانت سياسية أيضاً، إذ في 1933 اضطر لمبارحة برلين هرباً من اضطهاد النازيين الذين اعتبروا عمله الموسيقي «عملاً منحطاً مؤلفه يهودي منحط». وحين بارح فايل برلين أمضى بضع سنوات بين باريس ولندن، ثم توجه العام 1935 إلى نيويورك حيث كان النجاح الذي حصده كبيراً، عبر العديد من الاستعراضات الأوبرالية التي راح يمزج فيها موسيقاه الألمانية الطليعية بالجاز والحداثة الأميركيتين، وكان من أبرز أعماله خلال تلك المرحلة «جوني جونسون» (1936) و «درب الخلود» (1937) و «السيدة في الظلام» (1941). ومنذ ذلك الحين لم يتوقف فايل عن العمل وكان تعاونه بخاصة مع نصوص لماكسويل اندرسون وموس هارت وايرا غرشوين شقيق جورج غرشوين. إضافة إلى ذلك، كتب كورت فايل في تلك المرحلة الكثير من الأغاني والأعمال الموسيقية لا سيما كونشرتو للبيانو وسيمفونيتين، لكن هذه الأعمال لم تلفت إليه الانتباه الذي كان قد واكب أعماله الأوبرالية. alariss@alhayat.com
مشاركة :