وصلنا جدة اصحي مفاوز اصحي فزي شوفي البحر أقف أمامي قبل لحظات بفستان رماني وشعر مجعد متطاير وبشرة صهباء شديدة الجفاف وأقدام حافية مبتلة بتراب طري وبيدي الاثنتين أفرك عيوني لعلني أوسع نافذتي بصري لتستوعب كل تلك الكمية المهولة من مد الماء الأزرق التي لم أر مثل رهاها في حياتي من قبل. فجأة انفلت من ناظري أمي وأبي وانطلق أرمي نفسي في لجة الموج وكأن حاسة البصر وحدها لم تسعفني لاختبار هذه الخبرة الجديدة فأردت أن أشم الماء وألمسه، بل أرتمي في أحضانه، أما مذاقه المالح الحراق فقد فاجأني وكاد يودي بي في لقائي الأول بالبحر لولا يد الله التي امتدت إلي فأنقذتني وكتبت لي عمراً جديداً. لا أظن أن أحداً يستطيع معرفة مدى اتساع البحر وزرقة البحر وتموّج البحر إلا الأطفال وبخاصة الأطفال الذين لم يفتحوا عيونهم على بحر ولم يروا بحراً في حياتهم إلا في عمر بداية تفتح الحواس على الأسئلة. فيبدو البحر لعيون الأطفال حين تراه لأول مرة شاسعاً لامتنهياً مفعماً بالدهشة مشحوناً بنداءات الفضول. جئت جدة لأول مرة وعمري لا يتعدى خمس سنوات ومع ذلك رمت شرارة عشقها في عروقي منذ ذلك التاريخ المبكر. لا أعرف أين سكناً هل في بيت أو فندق أو شاليه من تلك الشاليهات النادرة وقتها, إن كان هناك أي منها في متناول يد أسرتي المستورة أو لعلنا لم نسكن في مكان، بل قد نكون مررناها عابرين إلى مكة ليس أكثر, ولكن البحر بحر جدة بالذات والذي لا أعرف في العالم سواه يسمى بحر أبحر حفر في ذاكرة طفولتي منحوتات ماء لا تحصى حملتها معي ما حييت في أحلام صحوي ومنامي. وقبل أن أخلع أسنان اللبن وأشب عن الطوق لأشعل حريقاً بالكاد يتسع لي وحدي اختلط ماء البحر بحبري وسرب حورياته ومرجانه وحيتانه وجنيّاته ومده وجزره وقواقعه وأصدافه ونجومه وحشائشه وأجراها بسخاء في ماء السراب مما حرم صحراء النفود والدهناء من الاستفراد بخلفية تاريخي الاجتماعي الشخصي وحدها وحولني في عمر مبكر إلى بنت برمائية (مزيج من الصحراء والبحر) أو بالأحرى حولني إلى بنت (بربحرية) على خلاف بحريات أميمة الخميس الأقحاح. بعد تلك الزيارة الخاطفة لشاطئ أبحر بفترة لست متأكدة مداها الزمني عدنا على ظهر لوري كبير يحمل كل عفش بيتنا الذي بشارع الشميسي بالرياض لنعيش في جدة. فتح باباً مكتباً عقارياً على شارع من أعرض شوارع مدينة جدة وهو شارع المطار (القديم الذي لم يكن مسماه القديم وقتها) وسماه (ياللمفارقة) مكتب (دخنة) على اسم واحد من أعرق الأحياء القديمة بمدينة الرياض وهو الحي الذي لم يقفل بيت الأسرة فيه إلا بوفاة والدته /جدتي. ويبدو لي أن مما سهل تلك التسمية وجعلها تنافس مسمى (مكتب عروس البحر الأحمر للعقار) الذي كانت تقترحه أمي, أن عدداً من شركائه في المكتب وصحبته القريبة كانوا من رفاقه المنحدر معظمهم من منطقة نجد ومنهم عبدالله العماري وعبدالله المهاوش وعطية السنان وخويلد الفرج وعبدالله بن قاسم وعبدالله الصايغ - رحمهم الله جميعاً. أما ماما فقد فتحت مشغلاً تعليمياً للفساتين وسمته نور الجزيرة إلا أن مشغلها بيافطته الزرقاء الصغيرة انتقل من حارة لحارة حسب البيوت التي سكنا بها عدد من حواري جدة قبل أن نستقر لأعوام طويلة في حي الرويس وننتقل بعدها لحي الشرفية ثم البساتين, وقبل أن يتحوّل مشغل أمي من ماكينة سينجر وطاولة وبضع مقاعد وجلسة عربي بإحدى غرف البيوت التي تنقلنا بينها إلى عدة مصانع لفساتين الأعراس والأعياد بعدد من الأحياء التجارية بجدة بعد أن استخرجت أمي سجلها للعمل التجاري قبل عام 1400هـ. لقد جربت الحياة منذ كنت طفلة في عدد من أحياء جدة, درست في عدد من مدارسها ولعبت أيام العيد في عدد من برحاتها ومنتزهاتها وركبت (مراجيحها ودويخاتها). ارتدت بنتاً صغيرة عدداً من مكتباتها /قرطاسياتها ومنها مكتبة صغيرة بشارع قابل وأخرى بشارع الأشراف وسط البلد . ومنها أشترت لي ماما كتاب نساء صغيرات للويز الكوت وكتاب أبكي يابلدي الحبيب / سيرة تحرر السود بأمريكا ومعاناة الرقيق وأيضاً فيها عثر لي أخي محمد - رحمه الله- على مذكرات مارك توين /توم سوير . أستطيع أن أميز بحاسة الشم والسمع وحدهما لو أغمضت عيوني ملامح معظم حواري مدينة جدة القديمة وشوارعها رائحة رائحة وصوتاً وصوتاً. من حي الصحيفات وباب الشام إلى الكرنتينا وحي النزلة اليمانية (الحي الأخير) سبق أن خصصته بمقال تحول إلى سيناريو إذاعي. قبل أن يشدو محمد عبده بأغنية الأماكن كان ولا يزال كل شبر من أرض جدة وكل ضمة من تراب حواريها وكل هبة رطوبة من هوائها الدبسي مثار شجن عميق لروحي . فمنذ أن شد الرحال («راعي جدة» كما كان يسميه خوياه وعلى رأسهم الملك سلمان) عن تلك المدينة قبل ثلاثين عاماً ومنذ أن لحقت به نور الجزيرة قبل أربع سنوات وأنا لا أستطيع أن أمشي في أي مطرح من تلك المطارح التي كان كل منهما يمشطها بأسطورة كفاحه اليومي البسيط دون أن أغسل مواقع كل خطوة من خطاهما بدموعي وشعري ونثرات من دمي وسيل من ذكرياتي ودعاء عريض أن تظل هذه مدينة جدة بعراقتها وجدتها حليفة للمستقبل.
مشاركة :