النسخة: الورقية - دولي لم يأت الشاعر الراحل أنسي الحاج من فراغ. لم يهبط من السماء. كان أحد البارزين في حركة التجديد العربية في خمسينات وستينات القرن الماضي. وأكثرهم قلقاً. بعضهم نظر في السياسة، بعضهم أنتج مسرحاً وفناً، كان ذلك في القاهرة التي شكلت مركز الانطلاقة القومية، ثم في بيروت، حيث كان مختبر التجارب الحرة. وحيث كانت عاصمة العرب الثقافية، قبل خلع هذه الصفة رسمياً على مدن موزعة في المشرق والمغرب. كانت الحرية هاجس الطليعيين في كل الميادين الإبداعية. بعضهم استعاد حضنه المذهبي أو الطائفي أو الحزبي الدافئ، بعضهم تمسك بحريته فهمشته «الجماهير» والطبقات الحاكمة. أنسي من هذا البعض الأخير. خاض المغامرة إلى نهايتها ونهايته. ابتدع لغته الخاصة. خلقها من رحم قوالب جامدة خضعت للقمع طوال قرون. لولا حريته الشخصية لما تحرر من أسر الوزن والقافية، ولما استطاع موسقة النثر ليصبح شعراً. الأحرار وحدهم يصنعون الحرية. نبذ المنبرية حين كان الشعراء يتبارون في المناسبات والمهرجانات الحزبية. حول ملحق «النهار» الثقافي، عندما كانت «النهار» تخوض معركة التجديد، إلى ملتقى الليبيراليين الخارجين على التقاليد. كان مقاله الأسبوعي تعبيراً راقياً عن الواقع العربي الرديء، ودعوة إلى التحرر «من التعصب والجهل وغوغائية النخبة والرعاع على السواء» (مقدمة ديوان «لن»). هذه المقدمة كانت مانيفيستو للخروج من أسر «التراث الرسمي»، حيث يجد الحر نفسه وسط محيطه «غريباً، مقاتلاً، ضحية الإرهاب وسيطرة الجهل... ووسط نار الرجعة المندلعة، الصارخة، الضاربة في البلاد العربية والمدارس العربية والكتاب العرب...». حافظ أنسي على حريته. لم يبال بالشتائم. ولا بالذين اتهموه باليمينية والتبعية للاستعمار. ولا بمن ألحقه بالاستعمار، وخططه التآمرية لتخريب الثقافة العربية. كأن هذه الثقافة كانت في أوج مجدها. وتبنى وروج «اليسار» الستاليني والجدانوفيون هذه التهم آنذاك، وكان منطلقها التعصب الطائفي الذي يضيق بكل جديد مختلف. وساعد التخلف والجهل والأمية على انتشار الشتائم التي سميت نقداً. وانتقل الشاعر خلال السنوات الماضية إلى صحيفة «الأخبار»، لم يبال بانتمائها أو توجهها السياسي، ليساهم بخبرته وقلمه في مسيرة جديدة في الصحافة العربية. لم يكن أنسي وحده المتهم بالتآمر، بل كانت مجلة «شعر» كلها متهمة. كل من ينشر فيها متهم بالعمالة للاستعمار. كان فيها أدونيس الذي ما زالت التهم تلاحقه حتى الآن. وكان فيها أيضاً يوسف الخال وخالدة سعيد. نشرت قصائد توفيق صايغ، ومحمد الماغوط، وسركون بولس وغيرهم كثيرون ممن أصبحوا رموز الحداثة. احتضنت المجلة كل «مخرب» للثقافة العربية. كان لديها حرية فائقة. نشرت شعراً بالفرنسية والإنكليزية، وبالعامية اللبنانية لطلال حيدر الذي كان طليعياً في هذا المجال. الشعر الجديد جميل بأي لغة أو لهجة كان. لم يكرَس الأدب الحديث الذي دعا إليه أنسي طوال حياته. بل كرس الجهل والإرهاب الثقافي والفكري الذي يتجسد الآن أنهاراً من الدماء، تتبارى وتتفنن في نقل صوره أحدث التقنيات، وتدعو إلى المزيد منه. وما زالت «الجماهير» و «النخب» تعتبر قصيدة النثر مؤامرة، والحرية مؤامرة، والدعوة إلى الانعتاق من التخلف والتبعية والعيش في الماضي كفراً. الماضي يتآمر علينا. رحل أنسي الحاج، وما زالت آراؤه طليعية، وشعره مدرسة، من بين أكثر المدارس حداثة. رحل أنسي، أو «فتح عتمة خيالو وفات»، على ما قال طلال حيدر يوماً.
مشاركة :