أن تقيم في فندق في الدوحة فتلك تجربة يمكنك من خلالها أن تعيش في مختبر، لن تتعرف من خلاله على أحوال القطريين وشؤون حياتهم ومشكلاتهم. تكون في واد والقطريون في واد آخر العربفاروق يوسف [نُشرفي2016/10/21، العدد: 10431، ص(14)] في مقابل حالة الترييف التي تعرضت لها الحواضر العربية التاريخية؛ القاهرة وبغداد على وجه الخصوص، سعى الخليجيون إلى اختصار المسافة فبنوا مدنا ذات طرز معمارية معاصرة. تأخرت دولة قطر عن شقيقتها دولة الإمارات العربية المتحدة في هذا المجال، ولم يكن مفهوما سبب ذلك التأخر. ولأني عشت وعملت في الدوحة قبل سنوات فقد هالني أن أرى المدينة التي أحببتها وقد اختفت نهائيا. المدينة التي غادرتها من غير أن أكون مضطرا لا تزال تحتفظ باسمها، غير أنها بالتأكيد مدينة أخرى. ولأني لم أطلع على مشاعر وأفكار القطريين في شأن ما تعرضت له مدينتهم الأصلية من زوال لا يمكنني الحكم على مستوى تكيفهم مع المدينة الجديدة وحجم استجاباتهم العاطفية وسط فضاء، صار يعج بالأبراج. ما إن يشعر أحدهم بضجرك من المباني الحديثة حتى يدعوك إلى الذهاب إلى سوق واقف، وهي إحدى الأسواق الشعبية التي صار عليها أن تلتحق بركب التغيير. في إحدى زياراتي السابقة ذهبت إلى هناك فاكتشفت أن تلك السوق هي الأخرى لم تعد موجودة كما هي، لقد أصابها شيء من الزخرف السياحي الذي أبطل مفعول تأثيرها الشعبي. سوق واقف اليوم فكرة وليس واقع حياة. من الصعب تقبل فكرة مدينة تتغير بسبب استضافة مباريات كأس العالم لكرة القدم بعد سنوات، فالمدينة أصلا لناسها وليست لضيوفها، غير أن القطريين وقد وضعوا إمارة دبي نموذجا لا يمكنهم الإقرار بذلك. بالنسبة إليهم صار محتما أن تقوم مدينة معاصرة على أنقاض تلك المدينة التي لم تكن تمثل حقيقة الازدهار الاقتصادي الذي شهده البلد في مرحلة ارتفاع أسعار الغاز. أما كان هناك وجه آخر للعصرنة غير بناء الأبراج؟ أعتقد أن هناك مَن أقصى خيال المدينة حين وضع كل شيء بين أيدي معماريين عالميين، ارتبط مفهوم المدينة لديهم ببناء الأبراج الشاهقة، وفي الطريق إلى ذلك الهدف فإن التفكير بهوية المدينة يشكل عقبة، تجب إزالتها. لا أحد يفكر بالخلل العصبي والنفسي الذي يصيب الناس العاديين. لا يزال القطريون مثلهم في ذلك مثل الخليجيين الآخرين يسكنون في بيوت أرضية مستقلة، تحيط بها الجدران العالية. وليس من الوارد تماما أن ينتقلوا إلى السكن في الأبراج التي خصصت للفنادق والشركات العالمية. وهنا بالضبط يغلب مفهوم الاستضافة على أيّ مفهوم آخر. فهل صار علينا أن نبني مدنا من أجل الآخرين، على حساب المدن التي تستجيب شوارعها لإيقاع أقدامنا؟ في هذا السؤال شيء من الرومانسية التي لا تنسجم مع الواقع. غير أنني في زياراتي المتعددة للدوحة في السنوات الأخيرة فقدت الرغبة في المشي وصرت أنظر إلى المدينة من خلال زجاج السيارة. من المؤلم أن يفعل القطريون الشيء نفسه. إنهم ينظرون إلى مدينتهم من خلال الزجاج. وهو أمر ينمّ عن حالة من الاغتراب الداخلي، حيث يكون العيش مجرّد نزهة في مدينة، صارت تتشكل بعيدا عن عاطفة أهلها. تبدو مدن الأبراج شبيهة باللغات التي يتم اختراعها في المختبرات اللسانية، بعيدا عن حيوية اللسان البشري ومجموعة أخطائه التي تضفي على اللغة معنى إنسانيا. مدن الأبراج تعزز مفهوم الشركة وتقضي على مفاهيم اجتماعية، كانت تقوم أصلا على الشراكة العاطفية. أن تقيم في فندق في الدوحة فتلك تجربة يمكنك من خلالها أن تعيش في مختبر، لن تتعرف من خلاله على أحوال القطريين وشؤون حياتهم ومشكلاتهم. تكون في واد والقطريون في واد آخر. وكما أرى وهي وجهة نظر قد لا تكون صحيحة فإن الأبراج ليست هي السبيل المثالي لعصرنة سبل العيش في بلد لا يزال التعليم الحكومي فيه يعاني من الإهمال. كاتب من العراق فاروق يوسف :: مقالات أخرى لـ فاروق يوسف الأبراج في مواجهة الإنسان: الدوحة نموذجا , 2016/10/21 سنة من الرخاء الصامت , 2016/10/17 جمانة الحسيني أيقونة فلسطينية في خلاصاتها, 2016/10/16 ألم يكن الأكراد عراقيين؟, 2016/10/14 الخلاص عن طريق الجمال, 2016/10/10 أرشيف الكاتب
مشاركة :