التلفزيون في العراق حاكم بأمر من؟ بقلم: كرم نعمة

  • 10/22/2016
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

التلفزيون الناطق باسم العراق يمثل الخطاب الآسن الضحل، بغض النظر عما إذا كان صوتا للمنطقة الخضراء أو لأحزاب إيران في العراق أو لأحزاب العراق في اللاعراق. العربكرم نعمة [نُشرفي2016/10/22، العدد: 10432، ص(18)] يفترض كاتب صحافي من طراز سياسي قبل أن يكون روائيا مثل الصافي سعيد، في روايته الجديدة “الكيتش 2011” أن التلفزيون كان أداة للحكم حينما كان محليا، الحكم بطريقة التحذير والتخويف الذي تستخدمه الحكومات بأمر من الزعيم القائد الأوحد آنذاك، أما حين أصبح التلفزيون فضائيا فقد أصبح أداة للانقلابات والثورات. مثل هذا الكلام واقعي إلى حد التجربة بالنسبة للجمهور اليوم، ومن بقي منهم يحتفظ بذاكرة تلفزيونية حية لعقود مضت. تعبير “التلفزيون من يحكم اليوم” استخدمه إعلامي عراقي على درجة من البراعة في الصناعة التلفزيونية، بعد أسبوع من احتلال العراق عام 2003، فبينما كانت البلاد برمتها تحت وقع الصدمة، كان السؤال ينطلق متأخرا، محيّرا وغير جدير بالوفاء، عمن سيحكم البلاد المستباحة، بينما البث التلفزيوني العراقي متوقف كليا، والمحطات العربية تعبّر عن أجندة حكوماتها ومموليها في خطاب إعلامي ملتبس. قال أمامي حينها: من يمتلك التلفزيون اليوم سيحكم العراق! لكن عن أي عراق كان يتحدث هذا الإعلامي الذي قرأ المشهد بلغة السياسي. بدا منظّرا مستقبليا للمشهد، وجسد الفكرة وأطلق قناة فضائية كانت من بين الأوائل آنذاك، وقد حكم جانبا من مزاج الجمهور العراقي عبر التلفزيون منذ ذاك الوقت إلى اليوم. لكن التلفزيون حاكم بأمر من؟ مثل هذا السؤال يمكن أن يُطلق في تونس مثلا، مثلما هو الحال في مصر، لكن أن تحصل على إجابة ميسرة، سيكون عندما يُطلق السؤال على التلفزيون في العراق تحديدا. “العراقيون” دخلوا عصر التلفزيون الفضائي من باب الرداءة الرثة بعد عام 2003، فحين أُوقف التلفزيون الرسمي للدولة المنهارة وظلت شبكات البث معلقة لم يتقدم أحد لالتقاط موجة تشغيلها حتى جاء حفارو القبور وتجار الدعارة والدين والطائفة، ليكون التلفزيون بيدهم بلا قيمة معرفية أو فائدة أو صناعة رأي على درجة من المنطق المقبول. التلفزيون الناطق باسم العراق يمثل الخطاب الآسن الضحل، بغض النظر عما إذا كان صوتا للمنطقة الخضراء أو لأحزاب إيران في العراق أو لأحزاب العراق في اللاعراق أو لما يمكن أن يسمى المعارضة أو لرجال الدين والتجار ورؤساء الأحزاب، أو أصحاب المشاريع…، إنهم جميعا تعلموا تقديم الخدمات الإعلامية بتنازل مريع عن القيم. إن تمارس الخديعة الإعلامية بذكاء، قد تمرر خطابك بنوع من الاحتيال على الجمهور، لكن أن تحاول اختراق العقول عبر تنازل مريع عن القيم من أجل تقديم خدمات سياسية مدفوعة الثمن، فذلك يعني التعري الأبله أمام جمهور يمتلك ما يكفي من الخيارات، كي يكتشف كم أنت ساذج في زمن تلفزيوني مفتوح على أقصى المديات العالمية. وما تمارسه التلفزيونات العراقية برمتها اليوم، ليس أكثر من وضع كاميراتها أمام مشاهد الرثاثة السياسية القائمة في البلاد، ليس لكشفها للرأي العام، بل لتكون جزءا من تلك الرثاثة، سواء زعمت أنها معارضة أو مدافعة عن الخطاب القائم، لأنها لن تستطيع الخروج من ضحالة وسطحية الواقع القائم. وفي حقيقة الأمر أنها لا تريد ذلك، لأن خروجها يعني ببساطة إقفال دكان الخدمات الإعلامية مدفوعة الثمن. عندما جف المال السياسي في العراق بسبب انخفاض أسعار النفط، اكتشفنا الرداء الهزيل الذي كانت تضفيه القنوات الفضائية على السياسيين، إنها في حقيقة الأمر ظهرت عارية من دون هذا المال الذي كانت بواسطته تشد أربطة عنق السياسيين الفاسدين وتجعل رجال الدين يعتمرون عمائمهم السوداء والبيضاء. المال الذي يدير تلك القنوات ليس من أجل هدف إعلامي مشروع، أو من أجل غاية وطنية، بل من أجل السبب نفسه الذي يعلن عنه السياسيون الفاسدون، وأصبح موضع تهكم وسخرية نادرة بالنسبة للعراقيين برمتهم. إن ازدراء السياسيين في القنوات الفضائية العراقية ليس عملا من أجل ردعهم أو إصلاحهم، أو تأشير مواضع الخلل والفساد في البلاد، بل خطاب إعلامي ينطبق عليه كلام الروائي جوناثان كوي “إن الكوميديا المعادية للمؤسسة كانت نتاجا لعصر أكثر سذاجة وأكثر تبجيلا”. الهجاء الذي تزعم القنوات التلفزيونية العراقية أنها تسخر فيه من السياسيين ورجال الدين، جعلها أضحوكة أمام الجمهور العراقي، لأن هذه القنوات تقوم بفعل إعلامي لا يقل فسادا عن فساد السياسيين ورجال الدين أنفسهم. أن تشاهد القنوات الفضائية العراقية، هذا يعني أن تفهم كيف ترى العراق. فلم يحدث على مر التاريخ أن امتلك الفساد مثل هذه الجرأة ليقول بوقاحة إنه الفساد بعينه وبسطحية إعلامية مريعة. كاتب عراقي مقيم في لندن كرم نعمة :: مقالات أخرى لـ كرم نعمة التلفزيون في العراق حاكم بأمر من؟, 2016/10/22 مع من نتكلم؟, 2016/10/17 صناعة الأخبار: أزمة داخل أزمة, 2016/10/15 الناس صارت تگرأ ولا تقرأ, 2016/10/10 الصحافيون ليسوا عملاء سريين, 2016/10/08 أرشيف الكاتب

مشاركة :