التلفزيون العربي اليوم ليس مصابا بنزلة برد مؤقتة يسهل علاجها، إنه مريض بشدة وينفث فيروسات المرض على المشاهدين بقصد انتشار العدوى، الكراهية والطائفية أحد الأعراض المرضية التي ساهم التلفزيون في انتشارها عن قصد.العرب كرم نعمة [نُشر في 2017/07/08، العدد: 10685، ص(18)] لأن التلفزيونات، كل التلفزيونات في العالم تزعم أنها تعمل من أجل مصلحة المشاهدين والارتقاء بوعيهم، فعلى الجمهور أن يرفع من مستوى حساسيته إلى درجة يقيس فيها تلك المصلحة المزعومة. يمكن اختصار المشهد بحزمة مكررة من المشاهد، لكن دعونا نخترْ الضجيج من هذا المشهد والجدل السياسي وطريقة تقديم الخبر والصورة المرافقة له، ومن سيكون المعلق على تلك الأخبار حينذاك. ذلك برأيي الوجه الأكثر تعبيرا للتلفزيونات، فعندما يتعلق الأمر بالمُحاور فأنه يدرك ما يسمى بقواعد الحياد، من أجل إبقاء آرائه السياسية سرا، وإذا كشف عن الطرف الذي يفضله، فإنه يواجه حتما اتهامات بالتحيز. لكن مَن مِن الذين يظهرون على شاشاتنا العربية اليوم غير متحيز؟ من المفترض أن تكون هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” مثالا متميزا لدراسة نوعية خطابها، لسبب بسيط متعلق بطريقة تمويلها من ضرائب تفرض على كل منزل في بريطانيا يمتلك جهاز تلفزيون، وهذا يعني إنها تحت مراقبة الجمهور وعليها أن تحقق تطلعاته وتقدم له ما يعمّ عليه بالفائدة، ولا تكتفي بحجب الإعلانات التجارية. لكن “بي بي سي” لا تنجو من الجمهور ولا من السياسيين أنفسهم، وكلما ادّعت أن قواعد المهنية والحياد عالية في خطابها، نجد ما يكسر تلك القواعد، هي مثلا لم تعتذر عن “الانتهاكات الإخبارية” في حرب احتلال العراق، حتى بعد أن أدان القانون البريطاني هذه الحرب غير المشروعة بعدما ساهمت تغطيتها الإخبارية بالتستر على جرائم ارتكبت في حرب غير مشروعة، وقبلها تحوّلت إلى موضع تهكّم عندما وقف جون سيمسون كبير مراسليها عام 2001 بثقة مبالغ فيها في كابول، وقال متحدثا باسم (بي بي سي) “لقد حررنا كابول!”، عندها وصفته صحيفة الغارديان بالمتخرفن! بالأمس تلقت الهيئة تنكيلا واتهمت بأنها أنتجت دعاية يسارية نيابة عن زعيم حزب العمال المعارض جيرمي كوربين، رافضة أن تقول الحقيقة بشأنه، وهي بذلك كشفت عن سلوك إعلامي منحاز يدمر الديمقراطية. يتذكر البريطانيون أن مارغريت تاتشر رفعت بطاقة الوطنية في وجه “بي بي سي” مشككة بتقاريرها عن حرب جزر فوكلاند مع الأرجنتين. ستحمل الصور في جانبها الآخر مشروعا تجاريا وسياسيا عندما يتعلق الأمر بشبكة “سي أن أن” الأميركية مثلا، لذلك يبدو صراخ الرئيس الأميركي دونالد ترامب بوجه التلفزيونات معادلا جدليّا لصناعة المادة الإخبارية، أنه نوع من التنافس لاختراق العقول وفرض نوعية الخطاب، وفي النهاية لا علاقة لمصلحة المشاهدين بذلك كما تزعم تلك المحطات، أو كما يريد السياسيون. فأمبريالية البث الفضائي التي كانت تمثلها “سي أن أن” تقابلها ضريبة الكلام المجرد التي يريد أن يكتفي السياسيون بدفعها لإقناع الشعوب. وهذا يفسر لماذا الليبراليون واليمينيون في الولايات المتحدة على حدّ سواء لا يستهلكون سوى المصادر التي هم على استعداد للإيمان بها. الضجيج المتصاعد في المحطات التلفزيونية العربية سواء أداره المعلق أو المحاور السياسي أو الداعية ورجل الدين، أو الوزير، فإنه لا يخفي قواعد اللعبة السياسية القائمة اليوم، التي لا تهمها أبدا مصلحة الجمهور، التلفزيون مشروع تجاري بغلاف سياسي أو ديني وعلينا بعدها أن نضع في الهامش كل ما يتعلق بمفاهيم الحياد والحساسية العالية والمسؤولية والتعبير عن هموم الناس. فكرة المُرسل والمُستقبل التي كانت قائمة في المدارس الإعلامية بدت بحاجة إلى إعادة تعريف معاصر يتلاءم مع طبيعة وهيمنة الإرسال اليوم، بعدما كان مقتصرا على الحكومات ورؤوس الأموال الكبيرة. لم يعد التلفزيون بيد الدولة وحدها، ولم يعد الجمهور ضحية سهلة تصدّق الخطاب الأحادي الذي كان يصلها من تلفزيون الحكومة، وهنا أيضا تكمن خطورة البدائل المتاحة أمام الجمهور والإغراءات التي تقدمها التلفزيونات. التلفزيون العربي اليوم ليس مصابا بنزلة برد مؤقتة يسهل علاجها، إنه مريض بشدة وينفث فيروسات المرض على المشاهدين بقصد انتشار العدوى. الكراهية والطائفية أحد الأعراض المرضية التي ساهم التلفزيون في انتشارها عن قصد. المشكلة إن الداء مُشخّص ببساطة لكن لا أحد يتقبل أخذ العلاج، لا مصالح التلفزيونات تقبل تغيير خطابها من أجل المصلحة العامة، ولا الجمهور مستعد لغلق نوافذ منزله أمام فيروسات التلفزيون. ثمة قصة تاريخية يتداولها الصحافيون البريطانيون كلما أرادوا الدفاع عن حريتهم حيال تغوّل الحكومات ومحاولة السيطرة على الصحافة، يبدو من المناسب العودة إليها. في عام 1854، وخلال حرب القرم، أرسل مراسل صحيفة التايمز ويليام هوارد راسل، قصة خبرية كشفت أن الجنود البريطانيين كانوا يعيشون في ظروف قاسية، والمعدات الطبية غير كافية، والفوضى تكتنف إدارة الجيش. استشاط غضب حكومة لورد أبردين في عهد الملكة فيكتوريا آنذاك، واتهمت المراسل روسل ورئيس تحرير التايمز جون ديلان، بضعف الحس الوطني عند نشر خبر ينتهك الأمن القومي. لكن محاولة إدانة المراسل وتشويه سمعة الجريدة فشلت، عندما توافد البريطانيون للتبرع بالمال للحصول على الإمدادات الطبية لدعم الجيش. وتلت ذلك تظاهرات عنيفة ضد الحرب أدت إلى انحسار حكومة أبردين بعد خسارتها الثقة. لماذا حدث كل ذلك؟ لأن الإعلام كان موضع ثقة! بينما تلك الثقة مهددة اليوم. كاتب عراقي مقيم في لندنكرم نعمة
مشاركة :