أصبح من الصعب على الملاحظ أو المراقب السياسي أو المتابع الإعلامي أن يفهم بسهولة ما يجري في ليبيا وأن يتوقع ما سيحصل في المستقبل القريب والبعيد في هذا البلد المنكوب. فلقد طال أمد الأزمة الليبية وتشعبت وتعقدت وتشابكت وتداخلت حتى أصبحت عبارة عن لوحة سريالية معلقة في الهواء، ففي كل مرة نتفاءل باقتراب حل هذه الأزمة بعد سلسلة من الاجتماعات واللقاءات والمؤتمرات في العواصم العربية والأجنبية حول ليبيا.. وبحصول تفاهم وتوافق واتفاق بين مختلف الأطراف السياسية الليبية المتنازعة، سرعان ما يتبخر التفاؤل وتتعثر تلك الاجتماعات واللقاءات والمؤتمرات وتفشل محاولات ومساعي إيجاد حل سياسي للأزمة الليبية. لقد ثبت من خلال الأحداث والوقائع أنه لا أحد يستطيع أن يعرف حقيقة ما يجري ولا يستطيع أن يفرض حلاً ولا يمكن له أن يضمن تفاهماً أو اتفاقاً بين «الإخوة الأعداء» في ليبيا، ذلك أن الأحداث والتطورات، المتناقضة والمتضاربة، تتعاقب بسرعة مذهلة وتزيد المشهد السياسي الليبي غموضاً على غموض.. فبعد عدة شهور من اتفاق الصخيرات في المغرب وتكوين حكومة وفاق وطني برئاسة فائز السراج منبثقة عن مجلس رئاسي أعلى للدولة لم تحظ هذه الحكومة المدعومة دولياً وعربياً بتأييد داخلي ليبي وما زالت إلى الآن تنتظر الحصول على ثقة البرلمان المنتخب الذي اتخذ من مدينة طبرق مقراً له، ورغم الضغوط القوية الخارجية التي مورست على البرلمان وعلى رئيسه عقيلة صالح للاعتراف بحكومة السراج فإن هذا الاعتراف لم يأتِ، وفي الأثناء ورغم ضياع الوقت، ورغم رفض المشير خليفة حفتر قائد الجيش الجلوس مع فائز السراج وعدم اعترافه بحكومة الوفاق تولت هذه الحكومة، عن طريق قوات وميليشيات تتبعها وتؤيدها، عبر عملية «البنيان المرصوص» اقتحام مدينة سرت وضواحيها لتحريرها من تنظيم «داعش» الإرهابي.. وفي الوقت الذي سجلت فيه الحكومة انتصارات ساحقة في ذلك، فاجأ المشير خليفة حفتر الجميع، في الداخل والخارج باستعادة آبار النفط في منطقة الهلال النفطي.. وتقول بعض المصادر إن خليفة حفتر قطع الطريق على الدول الغربية التي كانت تستعد لوضع يدها على هذه الآبار بواسطة قوة عسكرية غربية تتولى بعد ذلك حراستها. وقد رفعت هذه العملية التي قام بها حفتر شعبيته بين المواطنين في المدن والقرى الليبية.. وتحركت مظاهرات شعبية مطالبة به قائداً وحاكماً للبلاد.. في الوقت نفسه تتنادى بقايا نظام القذافي القديم إلى التجمع في حنين معلن للعودة إلى الحكم.. كما تجددت بعض الدعوات لتقسيم البلاد إلى ثلاثة أقاليم، في الشرق والغرب والجنوب مثلما كانت ليبيا في عهد الاستعمار الإيطالي وفي عهد الملك إدريس السنوسي.. حيث عادت الدعوة إلى إقامة نظام ملكي، ولهذه الدعوة مريدوها وأنصارها.. في هذه الظروف المعقدة تتواصل أعمال الخطف والقتل والنهب من قبل الجماعات المسلحة المنتشرة في كل مكان، تمارس إرهاب المواطنين وابتزازهم وتخويفهم.. وفي غفلة من الآخرين أعلن خليفة الغويل الرئيس السابق لحكومة الإنقاذ الوطني التي كانت تابعة للمؤتمر الوطني العام الذي أنتُخب في يوليو 2012م وانتهت مهامه في سنة 2014م، أعلن الانقلاب على حكومة السراج وقامت ميليشيات تحت قيادته باقتحام واحتلال مقر المجلس الأعلى للدولة في طرابلس العاصمة يوم السبت الماضي. وبذلك أصبحت طرابلس في قبضة الجماعات المتشددة التي حولت المدينة إلى مسرح للاشتباكات الدموية العنيفة، وهي جماعات، كما يقال، مشكلة «من الانتهازيين والمرتزقة تبدّل ولاءاتها وتنقلب على تحالفاتها بهدف تحقيق مصالحها بعيداً عن المصلحة العامة»، وفق العارفين بتفاصيل الشأن الليبي. وقد أثارت هذه العملية الانقلابية استياءً كبيراً وهلعاً شديداً داخل ليبيا. وقد أدانها مارتن كوبلر مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، وقال: «إن مثل هذه الأفعال التي تهدف إلى إنشاء مؤسسات موازية وعرقلة تنفيذ الاتفاق السياسي الليبي سوف تؤدي إلى المزيد من الاضطرابات وانعدام الأمن ويجب أن تنتهي من أجل الشعب الليبي». ويقول المطلعون على خريطة تحالف الجماعات المسلحة في ليبيا إن هناك 13 ميليشيا مسلحة تحكم العاصمة طرابلس فقط، وهي خريطة أصبحت معقدة ويصعب على المتابعين للشؤون الليبية تحديدها بسهولة، فبعضها يعلن الولاء للمجلس الرئاسي، وبعضها يساند ما تبقى من المؤتمر الوطني، وأخرى تتبع المفتي المعزول الصادق الغرياني.. وهدفها الأول والأخير خدمة مصالحها والحصول على المال.. وحسب مصادر ليبية فإن ولاءات الميليشيات دائماً ما تتغير، فمن يدفع رواتب أفرادها يتحصل على حمايتها.. فهذه الميليشيات هي مجموعة من العصابات المؤلفة من عناصر مرتزقة تعرض خدماتها على الجهة المستعدة لتقديم أعلى أجر.
مشاركة :