توفيق الحكيم وزهرة العمر بقلم: وليد علاء الدين

  • 10/23/2016
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

بعيدًا عن اللغة والأسلوب المحبوك الذي لا يخلو من نبرة تهكم وسخرية عُرف بها الحكيم، تكتسب رسائل زهرة العمر أهميتها من كونها كاميرا مراقبة رصدت لنا بتفصيل شديد الشاب توفيق الحكيم في فترة تكونه الفكري والفني. العربوليد علاء الدين [نُشرفي2016/10/23، العدد: 10433، ص(11)] توفيق الحكيم في غنى عن التعريف، فهو أبو المسرح في مصر والعالم العربي، المتفردُ بتجربته في المسرح الذهني، وهو أحد أبرز مؤسسي فن المسرحية والرواية والقصة في الأدب العربي الحديث. كل كتاب من كتب الحكيم يستحق وقفةَ تأمل، إلا أن كتابه “زهرة العمر” حكايةٌ أخرى. يضم الكتاب “رسائل حقيقية” كما وصفها الحكيم، بمعنى أنه لم يكتبها من باب الكتابة الأدبية في فن الرسائل، إلا أنها مكاتباته الحقيقية التي ظل يرسلها إلى صديقه الفرنسي مسيو أندريه ابن الأسرة التي استضافته في بداية إقامته في باريس عندما أصرّ والده أن يحصل على الدكتوراه في الحقوق من هناك. رسائل الحكيم لصديقه بدأت عندما انتقل الأخيرُ للعمل في مصنع في شمال فرنسا، واستمرت سنينَ طويلةً إلى ما بعد عودة الحكيم إلى مصر سنة 1928 والتحاقه بالسلك القضائي. تشبه هذه الرسائل “البرنامج” الذي يمكن لكل كاتب راغب في ترك بصمة في عالم الأدب والفكر أن يقتدي به، ليس بالضرورة في العيش في فرنسا، وإنما في منهج التفكير والنظر إلى الأمور، ومحاولة فهم واستيعاب ومراقبة الآخر وتطوير الذات، فهي كما وصفها الحكيم نفسه تكشف جهوده التي بذلها في مطلع شبابه في سبيل “التجرد والتحرر من كل ما يشغله عن الفن”. الرسائل في أصلها مكتوبة بالفرنسية، وربما كانت جزءًا من حرص الحكيم على تعلم وإتقان هذه اللغة التي كان يخطط أن يكتب بها بقية حياته، وفاجأه احتفاظ صديقه بها عندما زاره في باريس بعد سنين طويلة، فقام بترجمتها إلى العربية، ثم قرر نشرَها. بعيدًا عن اللغة والأسلوب المحبوك الذي لا يخلو من نبرة تهكم وسخرية عُرف بها الحكيم، تكتسب رسائل “زهرة العمر” أهميتها من كونها “كاميرا مراقبة” رصدت لنا بتفصيل شديد الشاب توفيق الحكيم في فترة تكونه الفكري والفني، فترة “زهرة العمر” كما وصفها. نقلت لنا ملامح جهاده العبقري من أجل استيعاب وفهم وهضم وإعادة التفكير وتحليل الحضارة الأوروبية. ماذا كان يقرأ وكيف؟ محاولاته التي وصفها بالفاشلة في البحث عن “الأسلوب” الخاص به في الكتابة. كيف كان يقضي الساعات الطوال في مراقبة وتأمل معروضات المتاحف، والتفكير في سرّ كل لوحة وتمثال، مبحرًا بعد ذلك في عوالم الفن التشكيلي ومدارسه وخصائصه وتاريخه. كيف تعرّف على الموسيقى والموسيقيين الكبار إلى حد بات معه يعرف سرّ تفرد كل منهم وعبقريته. يحكي الحكيم لصديقه كيف أنه قرأ أو -كما يقول “التهم”- كل محتويات مكتبة المسرح في باريس، ولأن دخله كان محدودًا فقد كان يُمضي النهار كاملًا في القراءة واقفًا داخل المكتبة، ثم يختار كتابًا رخيص الثمن ليشتريه خجلًا من الخروج بلا كتاب. ذات يوم افتقد صاحب المكتبة وقوفَ الحكيم إلى جوار الأرفف، فسأل عنه أحد العاملين، قبل أن ينتبه إلى أنه معلق منذ الصباح على سلم المكتبة منشغلًا بقراءة المسرحيات في الأرفف العليا. في “زهرة العمر” لا نستكشف فقط باريس في بدايات القرن العشرين (فترة الاضطراب الفكري الذي لم يسبق له مثيل) كما يصفها الحكيم، إنما نكتشفها خطوة بخطوة بعيني شاب نجح في أن يستخلص منها ما جعله أحد أبرز رموز الأدب العربي الحديث. كل جملة في “زهرة العمر” هي بالفعل زهرة ممتعة فنيًا، لها شكلها ورائحتها، إضافة إلى ما تحتويه من قيمة فكرية عظيمة الأهمية. شكرًا لتوفيق الحكيم ولصديقه الفرنسي أندريه. شاعر من مصر مقيم في الإمارات وليد علاء الدين :: مقالات أخرى لـ وليد علاء الدين توفيق الحكيم وزهرة العمر, 2016/10/23 أزمة لغة أم أزمة عصر أم أزمة تفكير, 2016/10/16 الشجرة قبل الثمرة, 2016/09/25 أسئلة الثقافة العربية أمام اليونسكو, 2016/08/28 أدب تدمير الطفل, 2016/08/21 أرشيف الكاتب

مشاركة :