أكبر اقتصاديات العالم، وتلك البلدان التي تعلن أنها المدافعة والمؤسسة لحقوق الإنسان وقيم الحرية والعدالة والديمقراطية، لم تستقبل من اللاجئين السوريين (مثلا) ما استقبلته واحدة من أصغر الدول العربية (الأردن أو لبنان). ويمكن أن ننظر إلى هذه المفارقة من عدة زوايا، وقد يبرر دائما أن دول الجوار في مناطق الصراعات والنزاع عادة ما تتحمل تدفق الأعداد الكبيرة من اللاجئين أكثر من غيرها. هناك تحليلات كثيرة لأسباب التطرف في العالم العربي ولكن في معظمها لا تنظر إلى أسباب تشكل البيئات الحاضنة ولكن كيف نبرر المساومة السياسية اللاأخلاقية في ملف اللاجئين مع تركيا للحد أو إعادة اللاجئين مقابل حصولها على بعض الامتيازات التي تؤهلها للدخول في الاتحاد الأوروبي؟ أو التبرير الاقتصادي في ألمانيا لقبول اللاجئين من فئات عمرية معينة؟ أو الإجراءات الصارمة في الحد أو عدم تسهيل عبور اللاجئين واحتجازهم في مخيمات مزرية على الحدود أو في مجمّعات اللجوء بانتظار الدخول؟ هذا على المستوى السياسي والحكومي والقانوني، أما على المستوى الشعبي، فحالة التوتر والقلق والرفض في ازدياد مستمر، والتغذية الإعلامية لهذا الموقف لا تهدأ. ونلاحظ في الآونة الأخيرة ونتيجة هذا الضغط؛ صعود نجم الأحزاب اليمينية المتشددة في عدد من بلدان أوروبا، مثل فرنسا وهولندا وسويسرا والنمسا وبلدان شرق أوروبا، كما أن بعض الأحزاب اليسارية اضطرت لوضع سلسلة من القوانين التي تحد من تدفق اللاجئين خوفا من خسارتها في انتخابات مقبلة، أو إذعانا للضغوط الشعبية قد يعكس قلقا وتوترا رسميا وشعبيا. قد يكون الخوف من وصول المتطرفين والقيام بأعمال عنيفة مبررا لهذا القلق والتوتر، ولكن هذا لا يحررهم من المسؤولية الأخلاقية، فقد حدثت مثل هذه الأعمال العنيفة في الأردن ولبنان وتركيا. وهذا يكشف عن تناقض كبير بين ما يدعيه الغرب من قيم مناصرة لكرامة اللاجئ وحقوقه الطبيعية وحريته، وبين السلوك الحقيقي الرسمي والشعبي المشبع بسيكولوجيا الخوف والاعتبارات النفعية السياسية والاقتصادية. النموذج الغربي العالم بالنسبة إلى اللاجئ ظالم مظلم وصعب الاحتمال، ولا توجد حلول عملية وقانونية وإنسانية حقيقية بعدُ لمشكلتهم، والتعامل معها أشبه بالتعامل مع الأمراض السارية التي ينبغي احتواؤها وعزلها و”التخفيف” من معاناة أصحابها، وهذا التعامل يضع ألف إشارة استفهام وتعجب أمام المنظومة الأخلاقية والقانونية العالمية في تعاملها مع قضية تمسّ جوهر حقوق الإنسان. أما حصيلة ذلك كله على المستوى الوجداني والعقلي للإنسان العربي، فنجد أن كل الممارسات الغربية مع العالم العربي على المستوى السياسي والإنساني والعسكري التي ترتكز على المنفعة البحتة، والمصالح غير المشتركة والتمييز واللامبالاة، لا تشجع على الإطلاق التجاوب مع النموذج الغربي الذي تدعو إليه العولمة، فما الذي يدفع الإنسان العربي إلى قبول هذا النموذج بديمقراطيته وحريته “الخاصة”، وهو الذي عمق معاناته، إن لم يتسبب بها في الكثير من الأحيان؟ ويمكننا أن نفهم بكل بساطة سبب تنامي ظواهر التطرف والتشدد والتقوقع الأيديولوجي، التي يقدم لها الفشل الغربي في التعامل مع المشكلات الإنسانية والحقوق الطبيعية للإنسان العربي فيما إذا ركب على فشل السياسات ونماذج الحكم ومسارات التنمية في معظم الدول العربية؛ حجج قوية للجماعات المتطرفة وجاذبة للشباب، مما يؤدي إلى انفجارهم وتفجير أنفسهم في مجتمعاتهم وفي مجتمعات الآخرين. هناك تحليلات كثيرة لأسباب التطرف في العالم العربي والإسلامي، ولكن في معظمها لا تنظر إلى أسباب تشكل البيئات الحاضنة لها؛ فتعلّقه إما على الدين وإما الاقتصاد وإما الإكراهات السلطوية. ولكن الأمر أبعد من ذلك بكثير، فهناك حالة من الغضب والسخط على التهميش والاستغلال العالمي والممارسات القهرية أو اللامبالية التي يتعرض لها الضعفاء، حالة تنتفخ يوما بعد يوم، وتغذيها السياسة والإعلام والاقتصاد. ومجتمعاتنا وخاصة الشباب، في حالة صدمة ثقافية وأخلاقية ساخطة معاكسة تماما للصدمة الانبهارية التي تعرضنا لها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أمام النموذج الغربي. من البديهي أن الصراعات والحروب تتسبب في الكراهية والعنف، ولكن من العجيب أن تصبح طريقة التعاطي مع القضايا التي تتسبب فيها الصراعات، كمشكلة اللجوء مثلا، عاملا رئيسيا لخلق الكراهية والإحباط واليأس والسخط ومشاعر الانتقام، وبالتالي تدوير عجلة العنف والصراع بأدوات وهيئات جديدة منفلتة يصعب السيطرة عليها. أيا يكن الثمن الذي ستدفعه الدول مقابل حل إنساني وعادل يحفظ كرامة اللاجئ، هو أقل بكثير جدّا، ولا يقارن بالثمن الذي تدفعه الآن وستدفعه لاحقا بسبب التعاطي السياسي النفعي الأخرق مع ما يقارب الواحد بالمئة من عدد سكان العالم، ناهيك عمّن يتعاطف أو يشعر بهم أو يعيش احتمال أن يكون منهم. باحث سوري :: اقرأ أيضاً ترامب الصورة الخفية لأميركا: عنصرية وصراعات هوية تقرير بريطاني: سياسات أوروبية خاطئة تفاقم أزمة الهجرة
مشاركة :