هذه الحياةُ تجري بقدرِ الله، وتسيرُ على ما أراد سبحانه. روى مسلمٌ في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة). ولذلك فلو اجتمعَتِ الأمةُ - كما أخبر صلى الله عليه وسلم- (على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفعتِ الأقلامُ وجفتِ الصحف). وما يدري الإنسان وهو يسير في هذه الحياة أين يمكنُ أن يكون الخير؟ وربما سعى سعيه لأمرٍ فصرفه الله عنه لخير أراده به، وربما كره شيئاً فكان في قضائِهِ الخيرُ له ولمن حوله. وربما بذل جهده لتحقيق غايةٍ فلم ينجح، فلما سلَّم أمره لله، جاءتْه على طبقٍ من ذهب! وقد مرتْ بي شخصياً قصصٌ وتجاربُ عجيبة، كلها مصاديقُ لهذه الحقائق الإيمانيةِ. حين تخرجتُ من جامعة أم القرى كنتُ - بحمد الله وفضله وحده- الأول على دفعتي، وتقدّمتُ يومها للإعادةِ، ولم أظفر بالوظيفة، كان بوسعي أن أتحرّك وأوسِّطَ وأسعى، فدرجاتي تجعلُ لي أولويةً، ولكنّي تركتُ الأمرَ، وقلتُ: لعل في هذا خيراً! وشاء الله أن تمرّ الأيامُ وتتصل بي جامعة الملك عبد العزيز لتطلبني معيداً عندها، فجاء يطلبُني ماكنتُ أطلبُهُ فلم أجده! وأعجبُ من هذا أن يشاء الله بفضله وكرمه أن أعود إلى أم القرى مرة أخرى (مديراً) بعد أن فاتني أن أكون فيها معيداً!! (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله). وأثناء دراستي الماجستير في جامعة الملك عبد العزيز كان لنا زميلٌ من خريجي كلية المعلمين يريد الدراسة معنا، ولم تكن شهادةُ الكلية مؤهّلةً لدراسة هذا البرنامج، فرُفِضَ، ولكنه سعى وتحرك وكتبَ وراجع وبذل جهداً جهيداً، وبعد أربع سنواتٍ جاءته الموافقة على أنْ يلتحق ببرنامج تكميليّ، ولما بلغه الخبرُ وطُلبتْ منه الوثائق، انطلقَ من ساعتِهِ إلى الجامعة، وفي طريقه إليها وقع له حادثٌ ضخمٌ فمات رحمه الله! أربعُ سنواتٍ والله يصرفُ عنه مايريدُ، فلما جاءَهُ مايريدُ كان فيه أجله رحمه الله. (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله). قصةٌ ثالثةٌ عشتُ أحداثها قبل أسابيع .. تقدمت مواطنةٌ لوظيفة (معيد) في إحدى كليات الجامعة وجاء ترتيبها الثالثةَ ولدى الكلية وظيفتان فقط، فلم يكنْ لها نصيب، فجاءَ أبوها إليّ يلحُّ في الطلبِ، فقلت له: يا أخي، إنما جرينا على مقتضى الأنظمة ولم يكن لابنتك نصيبٌ، وثقْ أن الله لو أراد لها الوظيفة فستأتيها رغماً عن كلّ أحدٍ، ولا أستطيع أنا ولاغيري أن أمنعها من شيء كتبه الله لها. فقال: صدقتْ. ثم لم تمرّ أسابيع حتى اعتذرتْ إحدى المرشَّحَتَيْنِ وجاءت الوظيفةُ تسعى إليها! فسبحان الله .. سعى وتحرك واجتهد فلم يكن لها نصيب، فلما جاء قدرُها أتاها ما تحبّ وهي جالسةٌ في بيتها! (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) إنها ليستْ دعوةً لترك الأسبابِ، كلَّا، فالأخذُ بالأسباب دين، ولكنها دعوةٌ لتعليم القلبِ أن الأمور بيد الله، وأنّ الإنسان إذا بذل جهده فليرضَ بما قضاه الله وقدّرهُ، وأنَّ على المؤمنِ أن يطمئنَّ إلى أنّ مشيئةَ الله فوقَ كلِّ مشيئةٍ، فما أراده لك لن يمنعه إنسانٌ مهما كان.
مشاركة :