ولَّى زمن الجاهلية، لكن الجاهلية عادت إلينا من أوسع أبوابنا التي فتحناها لها بكل فرح، لكلٍّ منا صنمه الذي ولّى وجهه نحوه، ولكلٍّ منا هبله الذي انزوى في محرابه يتضرع له، جاهلية هذا العصر جاهلية من نوع آخر، تتغلف بغلاف العصرنة والرقي والتحضر والانفتاح والسمو، جاهليتنا تتميز بقوتها في تطويع اللغة لصالحها فتختار من المسميات ما يجعلها تبدو للمضحوك عليهم تطوراً ورفعة. خلال الجاهلية الأولى كان الصنم الذي يكرس المتعبد حياته له من حجارة أو خشب أو حديد، لكن صنم هذا الزمان تطور بشكل لافت للنظر، وتعلم كيف يجعل نفسه مغرياً وشهياً، فهناك صنم يخفي نفسه تحت أسماء ماركات عالمية بسيل لها لعاب الصبايا، أو تصميمات لفساتين جذابة، تُفقد النساء عقولهن فيجعلن هدفهن في الحياة ارتداء آخر تصميمات فلان أو أغلى منتجات علان، أصبح عالم الماكياج صنماً كبيراً ضخماً يضم مريدين ذكوراً وإناثاً بأعداد هائلة قد تفوق عدد مَن تعبدوا لهبل ومنات.. هوسٌ وجنونٌ وحياة جعلت من مساحيق التبرج معبوداً كبيراً. من بين أصنام العصر الحديث، المشايخ والدعاة، فبعد أن تركوا واجبهم في دلّ الناس على الإله، جعلوا وظائفهم دل الناس عليهم وعلى سلاطة ألسنتهم وقوتهم في قهر خصومهم، تجد كل من درس حرفين في جامع المدينة وأرخى ذقنه وحف شاربه ورفع ثوبه والتف حوله عدد لا بأس به من المريدين، قد تحول لصنم معبود، لا يقبل نقداً ولا تعقيباً ولا تصحيحاً، يغتر بمجموعة ممن لعب الجهل بأدمغتهم فيجندهم لدفاع عنه وتزكيته وجعله فوق البشر، وربما فوق الملائكة، يخوضون حروباً دامية لأجل خزعبلاته، يقودون حملات شرسة للانتقام من كل من يجرؤ على نقاشه وتصويب رأيه، يجعلون منه صنماً كبيراً، ويصدق هو نفسه، فتجده يدَّعي كرامات وعادات خارقة يذكرها على استحياء كاذب؛ ليظهر بمظهر الشيخ المستحي من خوارقه، وقد يبكي ويتباكى معه مَن في المسجد وهو يزفهم مشاهدةً رأى فيها النبي يبشره ومن تبعه بالجنة. لكل زمن حماقاته، لكن حماقات زماننا متميزة، تميزها ثقة أصحابها، وتخاذل العقلاء في التصدي لها وتصحيحها، حماقاتنا شجعها غزو عالم الإنترنت لعقولنا وتعشيشه داخل قلوبنا، فترك الناس حياتهم العادية وبنوا لهم أصناماً وهميين على جدران وهمية، تتقاتل "الفتشياتش" فيما بينهن حول أفضل حساب على "الإنستغرام"، يتجيشن للدفاع عن فلانة وتتسلح أخريات بالهجوم على علانة، تقوم الحرب سباً وقذفاً وقصفا لإثبات أن الصنم الأول أفضل من الصنم الثاني، تنسى المسكينات مستقبلهن وسعادتهن وحياتهن وهن منغمسات في عيش حياة ليست لهن، وفي عبادة صنم خلقنه على موقع وهمي قد يختفي إذا ما قررت صاحبته الابتعاد. كلنا مستعبدون إلا من تحرر، الحرية أولويتنا المطلقة، ولا يجدر بإنسان أن يضع حريته تحت رحمة أي صنم، سواء كان شيخاً أو مشهوراً من مشاهير العالم أو مساحيق وتصاميم ومنتجات عالمية.. الحرية أشهى من كل هذا بكثير. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :