لاشك أن اسم يبرود سيدخل موسوعة التاريخ من أوسع أبوابه بغض النظر عن المادة التي ستدخل بها هذه المدينة العريقة. فقد شهدت المدينة وجرودها وقراها معارك طاحنة في الأيام الماضية بعد أن تحولت إلى مركز مهم للجماعات المعارضة لقوات النظام السوري وحلفائه، وذلك لكونها شريان ربط بين لبنان وسوريا واستخدمت كممر للمقاتلين القادمين من خارج سوريا لمقاتلة النظام. يبرود اليوم في قبضة الجيش السوري الذي يعتبر معركتها واحدة من أهم المعارك المستعرة في مختلف الأراضي السورية وفي كل الاتجاهات. ثمة روايات كثيرة عن طبيعة المعارك التي دارت هناك، يروجها أطراف الحرب المتقاتلون، لكن أغلبها يشوبه المبالغة غير القابلة للتصديق بسبب طبيعة الدعاية الإعلامية المقدمة للقارئ والمتابع لدرجة التيه بسبب صور الفضائيات المتناحرة في الهواء. ولأن الحقيقة صعبة الاختفاء وراء غربال هذه الدعايات، فقد تكشفت سريعا وهدأت معارك الإعلام بمختلف أنواعه: المرئي والمسموع والمقروء وحتى الإعلام الحديث المتمثل في وسائل التواصل الاجتماعي الذي يزيد فيه الهرج والمرج. حتى اللحظة لم تكشف الأطراف المتناحرة عن حجم الخسائر البشرية التي منيت بها بسبب هذا التناحر، حيث لا تزال رحى المعارك تدور حتى بعد إعلان النظام السوري بسط سيطرته على المدينة، ذلك أن الموقع الجغرافي لمنطقة يبرود يتميز بوعورته وامتداداته الواسعة على الأراضي السورية واللبنانية. لكن المؤكد الآن وبإقرار الجميع أن المدينة الأم قد أصبحت تحت القبضة الحكومية وتمكن الجيش السوري من وضع مراكزه الثابتة في مركزها وعلى تخومها من بعض الجهات. لكن الخسائر غير المنظورة في حموة المعارك تحتاج إلى باحثين وعلماء آثار وعلماء اقتصاد وعلماء اجتماع ليسلطوا الضوء على واقع الخسائر الحقيقية لهذه المدينة التاريخية التي يقال إن الإنسان الأول قد قطنها قبل 150 ألف عام. تؤرخ ويكيبيديا الموسوعة الحرة تاريخ هذه المدينة ما يبهر القارئ ويفاجئه. تقع مدينة يبرود شمال العاصمة دمشق بنحو 80 كيلومترا، وتحتضنها سلسلة جبال القلمون المتاخمة للحدود الشرقية للبنان، وهي تقبع في وادي بين هضاب السلسلة وجبال شاهقة مثل جبل مار مارون. كما تبعد عن جنوب مدينة حمص السورية بمسافة 80 كيلومترا للتوسط العاصمة دمشق والمدينة التي لاتزال تشتعل فيها المعارك، وهي تعتبر جزءا من ريف دمشق وتضم قلاي وبلدات مجاورة للمدينة ونسمع عن المعارك الطاحنة فيها مثل قرى رأس العين، عسال الورد، الجبة، والصرخة، بالإضافة إلى مزارع ريما التي سيطر عليها الجيش السوري قبيل بدء معركة يبرود وبعد صفقة التبادل التي تم بموجبها الإفراج عن 16 راهبة اختطفتهم جبهة النصرة من إحدى كنائس معلولة مقابل الإفراج عن 153 امرأة سورية معتقلة لدى النظام. وتعتبر يبرود من أقدم المناطق التي سكنها الإنسان، حيث يعرفها الأستاذ والباحث السوري نور الدين عقيل بالقول: «يبرود كلمة آرامية ورد ذكرها في كتابات الرقم الفخارية في بلاد ما بين النهرين، وذكر اسم «يبرود» في كتاب البلدان الذي وضعه الجغرافي اليوناني «بطليموس القلوذي» الذي عاش في القرن الثاني للميلاد. أصبحت «يبرود» في العهد الروماني مركزا عسكريا ويستدل على ذلك من بقايا أحد الحصون الرومانية الذي لا تزال بقاياه ظاهرة، في العهد الآرامي بني معبد ضخم لعبادة الشمس، ولا تزال الحجارة الباقية تحمل كتابات ونقوشاً تدل على حالته التاريخية السابقة. جرت أولى عمليات التنقيب في مدينة «يبرود» مع بداية عام 1930 على يد العالم الألماني «ألفرد روست» واستمرت ثلاث سنوات اكتشف من خلالها أبرز معالم الحضارة اليبرودية، ليصدر بعدها كتابه باللغة الألمانية «مغاور يبرود» في عام 1950. وعلى ضوء تلك الاكتشافات قدمت بعثة أمريكية في عام 1965 تضم باحثين من جامعة كولومبيا في «نيويورك» برئاسة البروفسور «رالف سوليكي» Solecki، Ralph S الذي عاد مجددا في عام 1987 ليكتشف بقايا للإنسان اليبرودي الذي اعتبر أقدم من سكن الأرض وأقام الحضارة فيها». ويبلغ تعداد يبرود نحو 80 ألف نسمة حسب إحصائيات رسمية في 2010، وهي مدينة مصدرة للهجرة إلى مختلف مناطق العالم بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي، واللافت أن الرئيس الأرجنتيني السابق كارلوس منعم ينحدر من مدينة يبرود، كما أن ملكة تدمر زنوبيا كانت تصطاف في يبرود نظرا للطقس المعتدل صيفا الذي تتميز به المدينة التي يتمتع أبناؤها بكفاءات علمية مميزة من الدراسات العليا في مختلف التخصصات. ولذلك تحولت المدينة في ثمانينات القرن الماضي إلى عامل جذب للمواطنين السوريين بسبب تحولها إلى مركز صناعي وزراعي وسياحي، مستفيدة أيضا من قربها من الحدود اللبنانية. يبرود اليوم تعاني من آثار الحرب، وتحتاج إلى فترات طويلة لإعادة الحياة إليها مثل بقية المدن السورية لتعود منطقة جاذبة للحياة وإعادة صياغة الواقع الاجتماعي الذي كان منسجماً مع نفسه منذ بدء الخليقة، حيث كانت يبرود مثالا لتعايش الأديان حتى وقت قصير قبل تفجر الأحداث الدامية.
مشاركة :