أبوبكر سالم المغني الذي صنع أسطورته بنفسه بقلم: فاروق يوسف

  • 11/20/2016
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

سالم استطاع أن يفرض شخصيته من غير أن يضطر إلى الغناء بلهجة غير تلك التي كانت تحلّق بعاطفته في صباه وشبابه ليتحدى بأدائه القوي أساطير الغناء. العربفاروق يوسف [نُشرفي2016/11/20، العدد: 10461، ص(9)] يماني سعودي غزله مهذب وهمسه يوجع لندن - أبوبكر سالم مريض. الأغنية العربية مريضة إذن. ولكن هل هناك أغنية عربية الآن؟ ما نسمعه اليوم ليس غناء. لذلك حين يقترن الحديث عن الأغنية العربية بالمطرب اليمني فإنه يتخطى حاضرها الرث إلى مواقع خلودها وسعادة المهتمين بها. طرق العشاق سالكة معه أبوبكر ظاهرة غنائية. ليس الصوت الذي تتعدد سلالمه في اللحظة ذاتها وحده. وليس اللحن الذي لا يكرر إيقاعاته وإن حمل جملة موسيقية واحدة وحده. وليس الأداء الذي يشبك الصوت باللحن ليصل بهما إلى أقصى كرمهما في العطاء. أبوبكر كل ذلك مضافا إليه إخلاص رهيف ومهذّب إلى الكلمة تقول رسالتها بنبل أخلاقي فريد من نوعه من غير أن تخطئ الطريق إلى لوعتها في الغرام العميق والوله الطاهر. معه كانت طرق العشاق سالكة إلى فضاء أبيض، فضاء مفتوح على تحولاته التي لا تستسلم لأيّ نوع من أنواع اليأس، حتى وإن كان موضوع الأغنية يتعلق بالفراق والهجر والخسران. وهو ما لا يعني أن المرح الذي كان يضفيه صوت ذلك المغنى القادم من حضرموت يحضر من جهة الرغبة في دفع الأذى والتخفيف من الضرر بقدر ما يشير إلى فهم عميق للوضع البشري. شخصيا لم أكن قد تعرّفت عليه، حتى “متى أنا أشوفك” التي انتشرت عربيا بأصوات مطربين عرب آخرين. وقد تكون تلك الأغنية هي التي قدمته عربيا. غير أنني في المرة الثانية تعرفت عليه وهو يشرك التونسية الراحلة ذكرى في عدد من أغانيه. فكان بمثابة راع لصوتها الجليل. المرح الذي يضفيه صوته القادم من حضرموت يحضر من جهة الرغبة في دفع الأذى والتخفيف من الضرر بقدر ما يشير إلى فهم عميق للوضع البشري كان صوته يعلو وينخفض بصوتها الساحر كما لو أنه يحاول أن يدوزن أوتار حنجرتها. يومها اكتشفت الظاهرة الغنائية الفذة التي يمثلها أبوبكر سالم. وهي ظاهرة أكبر من محاولة إعادتها إلى أصولها الحضرمية. أبوبكر سالم ليس مطربا فلكلوريا. إنه مطرب حديث، يمكن مقارنته بالأميركي بيري وايت. لولا أن سالم ليس من نوع وايت الذي ينهك سامعيه بألمه. خفة سالم تكمن في قدرته على أن يلعب بصوته فينتقل بيسر بين شعور عميق بالأسى والميل إلى التفاؤل. ولد أبوبكر سالم بن زين بن حسن بلفقيه عام 1939 بمدينة تريم التابعة لحضرموت باليمن. توفي أبوه وهو لم يكمل عامه الأول فتكفل جدّه برعايته. تلقى تعليمه على يد أكبر علماء حضرموت وأتمّ دراسته في علوم الفقه والدين، ثم درس في معهد إعداد المعلمين، حيث مارس مهنة التعليم بعد تخرجه لمدة ثلاث سنوات. الشاعر الذي رافق المغني كان معروفا على نطاق ضيق بموهبته في تأليف القصائد التي كان يغنّيها بنفسه. ففي سن السابعة عشرة غنّى أول أغنية من كلماته وهي “يا ورد محلا جمالك بين الورود”. وفي السنوات الأولى من خمسينات القرن الماضي غادر بلدته تريم إلى عدن. هناك تعرف إلى أدباء المدينة وفنانيها، وأتيحت له الفرصة لعرض موهبته في الغناء من خلال الحفلات التي كانت تقام في المدينة، وهو ما جعل طريقه سالكة في اتجاه إذاعة عدن التي سجلت له عام 1956 أغنيته الأولى “يا ورد”. بعدها بسنتين غادر إلى بيروت، ليستقر هناك ويسطع نجمه عربيا، غير أن وقوع الحرب الأهلية اضطره إلى مغادرة المدينة التي أحبها عام 1975 عائدا إلى عدن التي لم يبق فيها طويلا، فغادرها إلى جدة ومن ثم إلى الرياض التي حصل فيها على الجنسية السعودية. بعد استقراره في الرياض صار أبوبكر يتردد على القاهرة بكثرة لتوزيع أعماله الفنية وتسجيلها. وكانت أن دفعت شهرة أغانيه عربيا عددا من المطربات والمطربين العرب إلى أن يستعيروا أغانيه بأصواتهم، مثلما فعل طلال مداح ونجاح سلام ونازك ووردة ووليد توفيق وعبد الله الرويشد. كما أنه وبسبب شغفه بالأصوات الراقية أقبل على الغناء الثنائي مثلما حدث في تجربته مع ذكرى. وهي تجربة أعاد سالم من خلالها اكتشاف القدرات الكامنة في صوت المطربة التونسية الراحلة. شهرة أغانيه عربيا تدفع عددا من المطربات والمطربين العرب إلى أن يستعيروا ألحانه وكلماته بأصواتهم حتى هذا اليوم، مثلما فعل طلال مداح ونجاح سلام ونازك ووردة ووليد توفيق وعبدالله الرويشد وإذا ما كان أبوبكر قد بدأ حياته شاعرا فإنه حرص على أن يضع ذلك الشاعر في خدمة الغناء. لذلك لم يصدر سوى ديوان واحد. وهو كتاب منسيّ لا يذكره أحد. لقد طغت شخصية المغنّي فاحتوت بعبقريتها الشاعر والملحّن. صوته كان هبة استثنائية للغناء العربي، كما أن أداءه الذي حضر من جهة غير متوقعة قياسا لما هو مألوف ومكرّس قد وسّع من دائرة الغناء العربي. فهو مطرب غير تقليدي. ما فعله كان خروجا على السائد. وهنا بالضبط تكمن مفاجأته التي أسعدت المهتمين بالغناء وبتاريخه. في “يلي ملكت الروح” يكتفي أبوبكر بالهامش، تاركا المساحة كلها لذكرى، لتحلّق مثل طائر جريح، يعرف متى يعيده بنفسه إلى القفص. لا يدخل إلا حين تلمع عيناه إعجابا بالصوت الأنثوي العميق فتكتظ حنجرته بالأصوات المتحشرجة التي تمتزج طبقاتها، بعضها بالبعض الآخر، بحيث يضطر إلى أن يقول كلمة هنا وكلمة هناك، كما لو أنه يضع لمسات الرسام الضرورية على لوحة انتهى من رسمها. بعكس ما فعل في “ما يشغل التفكير” حيث يلتحم صوته بصوت ذكرى، كما لو أنهما يتبادلان كرة ملوّنة، تصل قافزة ولا تستقر أبدا. في المحاولة المشتركة التي تجسدت من خلال عدد كبير من الأغاني، يحضر أبوبكر بقوة انفعاله الذي يغلب عليه الارتجال، من غير أن يخشى تفوّق ذكرى عليه وهي التي كانت أشبه بلبوة في ذروة شعورها بالخطر. لم تكن ذكرى بالمطرية التي يمكن السيطرة عليها بيسر. غير أن ابن حضرموت أجاد ترويض ذلك الصوت، محافظا على نضارته ووحشيته واكتمال صورته. كان المعلم الذي يضبط على إيقاع لا يقبل الخطأ مشية طالبته التي يعرف أنها تغمض عينيها على ما لم يغادر شفتيه بعد من كلام. سر الظاهرة الغريبة ظاهرة أبوبكر سالم في الغناء العربي ليس لها مثيل. يوم ظهر لم يكن أحد من العرب قد سمع شيئا عن الغناء في اليمن والخليج والسعودية. ظهوره كان حدثا تاريخيا. لا بسبب ما حمله من إرث غنائي بل بسبب موهبته الكبيرة التي صنعت من ذلك الإرث شيئا لامعا ونفيسا. طرق العشاق تبدو مع أبوبكر سالم سالكة إلى فضاء أبيض، فضاء مفتوح على تحولاته التي لا تستسلم لأيّ نوع من أنواع اليأس، حتى وإن كان موضوع الأغنية يتعلق بالفراق والهجر والخسران سينسى الكثيرون أن الرجل كان يغني بأسلوب حضرموتيّ أو عدنيّ أو صنعانيّ أو حتى خليجيّ. كان كل شيء قدّمه يشير إلى موهبته الفذة في الأداء وإلى صوته الآسر الذي يعبّر عن الألم من غير أن يسبب أيّ نوع من الحزن. كان صوته دائما مضيئا. لذلك انتشرت أغنياته بطريقة لافتة في وقت، كان هناك مطربون عرب كبار لا يمكن تخيّل إمكانية أن ينافسهم مغنّ قادم من بلاد، كانت مهملة. هناك سر خفيّ في أغنيات من نوع “متى أنا أشوفك” و”سرقت النوم” و”يا مسافر على البلاد” و”ما علينا من كلام الناس” و”سرّ حبّي فيك غامض” التي يقول فيها “لا تعذبني وإلا، سرت وتركت المكلا” و”نار الشوق” و”ظبي اليمن” و”يا زارعين العنب” وسواها من الأغنيات التي صارت بفضل أبوبكر سالم جزءا من الوجدان العربي. لقد حضر أبوبكر سالم إلى المشهد الغنائي العربي غريبا ووحيدا. ولأنه حمل تاريخا من الأصوات فإنه استطاع أن يفرض شخصيته، من غير أن يضطر إلى الغناء بلهجة، غير تلك التي كانت تحلّق بعاطفته في صباه وشبابه. لقد تحدى بصوته العميق وأدائه القوي أساطير الغناء وصنع أسطورته. :: اقرأ أيضاً أليكسي نافالني فتى روسيا الذهبي الذي لا يخاف من بوتين مالك شبل إسلام النور يفقد منظره في ذروة الفوضى الفكرية محمود عبدالعزيز ممثل متجدد تنوعت أدواره مع تقلبات الزمن

مشاركة :