تقليدياً لعبت القوة العسكرية دوراً محورياً في صناعة أثر الدولة ومكانتها في العالم، ولذلك فرض المنتصرون في الحرب العالمية الثانية أنفسهم أوصياء على القرار الدولي، واحتكروا لأنفسهم حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، وأصبحت أميركا، وروسيا، وبريطانيا، والصين، وفرنسا ذوات الأمر والنهي في شؤون العالم. ومع مرور الوقت وتطور تقنيات الاتصال ووسائله استطاعت القوة الاقتصادية القائمة على المعرفة أن تنافس منفردة الدول التي تعتمد على قوة جيوشها وأن تتحدى ترسانتها النووية العسكرية، والصناعات المتعلقة بها. يمكن لنا أن نضرب مثلا باليابان التي يحتل ناتجها الوطني الرتبة الخامسة عالميا بنحو 4.83 ترليون دولار وفق احصائيات 2015م، وتأتي في المركز السادس المانيا، وهما دولتان لم يُسمح لهما بعد الحرب الثانية بالتسلح. وعلى خطى اليابان وألمانيا ظهرت قوى اقتصادية ضخمة، مثل سنغافورة، وهونج كونج، وكوريا الجنوبية، وهي دول لم تُعرف بقوتها العسكرية. الدولة القوية في سمعتها لديها ميزة تنافسية كبيرة، والعكس صحيح. فالصورة الذهنية أو سمعة بلد من البلدان هي التي ينظر منها العالم الخارجي لمخرجات البلدان ومنتجاتها المادية والفكرية، ومجموعة الخبرات التي تراكمت عند الآخرين عنها، والتجارب والآراء، والمعلومات المتداولة في أقنية الاتصال المختلفة حول الأمة أو الدولة. ووفقا للخبراء في هذا المجال فإن سمعة الدولة تتشكل من مزيج من العوامل بعضها حقيقي، والبعض الآخر صنع في دول عدوة أو منافسة. ومن تلك العوامل: السياسة (الشؤون الداخلية والسياسة الخارجية)، والاتصالات والترفيه (الأفلام)، والشائعات. وعبر هذه القنوات يعرف الآخرون الرموز الوطنية لبلد من البلدان؛ فعندما يذكر شكسبير مثلا تذكر معه بريطانيا، وعندما يذكر جوتة تذكر ألمانيا، وعندما يذكر فولتير تذكر فرنسا. ويدخل في تكوين سمعة البلد وتشكيل صورته الذهنية الملابس، والمباني النموذجية، والإيقاعات، والآداب والفنون، وطبيعة نظام الحكم، والعادات، والتراث التاريخي وغيرها. وتسهم المعلومات بدور مهم في صناعة الصورة الذهنية لأي بلد من بلدان العالم، وبحجم ونوعية إنتاجها، وتحكمه في كثافة وفاعلية تدفقها يستطيع رسم معالم سمعته، بل والتأثير في سمعة بقية البلدان. وبذلك تعبر عن قوتها، وتحمي مصالحها دون الحاجة لترسانة عسكرية مرهقة. بينما تكون الدول الضعيفة في إنتاج المعلومات الإيجابية، وغير القادرة على الحد من تدفق المعلومات السلبية عنها رهينة لمن يملكون المعلومات ووسائل تصديرها، وقد يماثل هذا الخطر، أو يفوق خطر الاستعمار العسكري المباشر. الخطأ القاتل الذي يقع فيه بعض المخططين الهواة، هو صناعة كميات كبيرة من المعلومات الوهمية، التي تشبه حفلة الألعاب النارية، فبعد أن تنير السماء بألوانها الزاهية تتحول إلى رماد تذروه الرياح مع أولى نسمات الصبح. الإعلام في أفضل حالاته هو: تزويد الجماهير بالأخبار الصحيحة، والمعلومات السليمة، والحقائق الثابتة التي تساعدهم على تكوين رأي في واقعة من الوقائع، او مشكلة من المشكلات، بحيث يعبر هذا الراي تعبيراً موضوعياً عن عقلية الجماهير، واتجاهاتها وميولها، فإن الإعلام سوف يلعب -والحالة هذه وفقا لقوته وسيطرته- دوراً محورياً في تشكيل سمعة الدول، وصناعة صورتها الذهنية، وفق ما يحقق أهداف القائمين على العملية الاتصالية. وبذلك فإن المطلوب هو استثمار جميع المنتجات المادية، والفكرية، المعرفية، والسلوكية الحقيقة لصناعة محتوى موثوق، ومن ثم مشاركته بالطرق الحديثة. في عصر المعلومات، وثورة الاتصالات لا يتطلب الأمر أن تكون الدولة نووية، ولا حتى مسلحة بجيش جرار؛ فسويسرا تحتل المرتبة الثامنة في ترتيب أهم 30 دولة في القوة الناعمة، وهي قائمة لا تضم دولة إسلامية واحدة، ناهيك عن أن يكون فيها دولة عربية. وفي المقابل فإن المملكة العربية السعودية تحتل المركز الثاني عشر في قائمة الدول الأكثر تأثيرا في العالم، وتأتي بعدها دول مهمة كالهند التي احتلت المركز 13، وأستراليا 14، وتركيا 18. كما أن السعودية تحتل المركز 29 من بين أفضل الدول في العالم، ولا تتقدم عليها دولة في العالم الإسلامي سوى ماليزيا 28، وتتبعها تركيا 30، فيما تحتل دولة مثل إيران المرتبة 58. لا يختلف اثنان على سمعة اليابان، وسويسرا، وسنغافورة، بينما يدور جدل كبير حول المملكة رغم حضورها وقوتها، وربما يكون السبب أن تلك الدول تعرف ماهي، وماذا تريد، بينما نحن نجري خلف شعارات مثالية، لا تجيب بوضوح عن ذينك السؤالين. من نحن؟ وماذا نريد؟ تتطلب إجابات يفهمها المواطن، سواء أكان في المسؤولية، أو خارجها، لأنها تزوده بمعرفة تنعكس على سلوكه، وتصرفاته في الداخل والخارج. أما اجترار إجابات معلبة، ونمطية لا تؤطر تصرفاتنا، ولا تؤثر فيها، فإن ذلك يعني الدفع ببقاء الحال على ما هو عليه، مع ملاحظة أن دوام الحال من المحال. كيف نكون شعباً مسلماً محافظاً وبذات الوقت يكون ضعف الوازع الديني، هو السبب الرئيس للفساد؟.
مشاركة :