مع دخول عملية «درع الفرات» التي أطلقتها تركيا دعماً لفصائل من الجيش السوري الحر، مرحلتها الثالثة الرامية إلى طرد «داعش» من مدينة الباب الاستراتيجية، تتبادر أسئلة عن حدود التفاهمات التي بنتها تركيا مع كل من روسيا والولايات المتحدة وإيران، والمدى الذي يمكن أن تبلغه هذه العملية العسكرية التركية، خصوصاً أن السيطرة على مدينة الباب، تفضي إلى جعل فصائل الجيش السوري الحر والقوات التركية على تماس مع قوات النظام، ومع ميليشيا «قوات سورية الديموقراطية»، المدعومة من الولايات المتحدة، فضلاً عن قرب المدينة من حلب. وحدد المسؤولون الأتراك أهداف عملية «درع الفرات» في إبعاد خطر «داعش» عن حدود تركيا الجنوبية، ومنع حزب الاتحاد الديموقراطي من تشكيل كيان أو دويلة معادية لها في الشمال السوري، ما يسمح بإنشاء منطقة آمنة، لطالما طالبت بإنشائها أنقرة، لكنها لم تلق قبولاً أميركياً. وتمكنت فصائل الجيش السوري الحر المشاركة في عملية درع الفرات من طرد «داعش» من جرابلس في المرحلة الأولى من العملية، ثم وصلت إلى بلدة الراعي في مرحلتها الثانية، ووضعت السيطرة على مدينة الباب هدفاً للمرحلة الثالثة، وباتت تفرض سيطرتها على منطقة تتجاوز الألفي كيلومتر مربع خلال وقت قصير نسبياً. غير أن الناظر في الوضع التركي، هذه الأيام، يجد أن القيادة التركية في وضع لا تحسد عليه، إذ تواجه أنقرة وضعاً صعباً في علاقاتها مع الشرق الأوسط، لأنها تخوض حروباً عديدة ضد تنظيمات تصنفها في خانة الإرهاب، وخاصة ضد عناصر «داعش» ومقاتلي حزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي يشكل حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي (PYD) ذراعه السورية. ولا شك في أن توسيع العملية العسكرية التركية نحو مدينة الباب، يعني أن الحكومة التركية تعطي الأولوية لهزيمة تنظيم «داعش» في شمال سوريا، وأخرت التقدم إلى مدينة منبج، التي تسيطر عليها «وحدات حماية الشعب» على أن تنسحب منها تنفيذاً للضمانات الأميركية لأنقرة، خصوصاً أن المسؤولين الأتراك يولون أهمية كبيرة لإبعاد «وحدات حماية الشعب» إلى شرق الفرات، ومنعها من وصل كانتونَي الجزيرة وعين العرب (كوباني) بكانتون عفرين، كما يطمح حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في سورية. غير أن الأمور ليست سهلة أبداً بالنسبة إلى تركيا، فهي تواجه تحديات عديدة في الداخل والخارج، إذ بالرغم من أنها نجت من محاولة انقلاب فاشلة في 15 تموز (يوليو) الماضي، فإنها لا تزال تعاني من تبعات حملة الاعتقالات الواسعة لجماعة فتح الله غولن، والحرب ضد حزب العمال الكردستاني، فضلاً عن تحديات مشاركة قوى دولية وإقليمية في الصراع الدائر منذ سنوات في الجوارين السوري والعراقي. انتخاب ترامب ولعل الارتياح الذي أبداه القادة الأتراك حيال انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة بدلاً من هيلاري كلينتون، له صلة بما يقال عن استعداد ترامب للتعاون مع تركيا ضد جماعة فتح الله غولن، واتخاذه موقفاً ليناً خلال حملته الانتخابية حيال الاعتقالات والملاحقات التي أقدمت عليها الحكومة التركية بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، إضافة إلى ما عبر عنه المستشار العسكري لترامب، الجنرال المتقاعد مايكل فلين، من استعداد لتسليم غولن الذي تتهمه أنقرة بالوقوف وراء محاولة الانقلاب. وقد لقي ذلك كله ترحيب الساسة الأتراك، الأمر الذي يفسر مسارعة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتهنئة ترامب بفوزه، علماً أنه سبق له أن أشاد بأفكار ترامب القريبة من فكرة إنشاء المنطقة الآمنة في شمال سورية التي تسعى إليها تركيا إقامة عبر «درع الفرات»، وانتقد التظاهرات في الولايات المتحدة ضد الرئيس المنتخب. وبالتالي فإن التفاهمات التي بنتها تركيا مع روسيا قد تأخذ دفعاً كبيراً، بالنظر إلى الغزل المتبادل ما بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، لكن تأييد الأخير إنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري تقابله إشارات قد يكبحها ميل ترامب إلى إطلاق يد روسيا في سورية، فضلاً عن أن موقفه من فصائل الجيش الحر المدعومة تركياً غير معروف، بالرغم من حديثه حول نيته وقف الدعم العسكري والمالي الأميركي للمعارضة السورية. ولا شك في أن الانخراط العسكري التركي المتزايد في سورية، جاء بمقتضى تفاهمات إقليمية ودولية واضحة، لكن حدود تلك التفاهمات تتوقف على امتدادات هذا الانخراط وتبعاته، لذلك جاءت زيارة رئيس الأركان الروسي فاليري غيراسيموف لأنقرة أخيراً، ولقاؤه نظيره التركي خلوصي أكار، في إطار تقييم حدود الانخراط العسكري التركي والتفاهمات حوله. خلافات دولية وإقليمية ويوفر الوضع في سورية مجالاً واسعاً للخلافات ما بين القوى الدولية والإقليمية، مع مجيء إدارة أميركية جديدة، يعتبر رئيسها المنتخب أن وضع بشار الأسد ثانوي قياساً بالقضاء على «داعش» وفق خطة لم يكشفها. لكن الواضح هو حرص ترامب على بناء علاقات ودية مع نظيره الروسي الذي يختلف مع أردوغان حول مدة بقاء الأسد في السلطة، إضافة إلى اقتراب مقاتلي المعارضة من حلب، ورغبة تركيا في إقامة المنطقة الآمنة في الشمال السوري. وقد يقود توثيق العلاقة ما بين ترامب وبوتين إلى التأثير على الطموح التركي الإقليمي، وخاصة في سورية، لكن بعض المقربين من حزب العدالة والتنمية الحاكم يرون أن تصريحات شخصيات قريبة من ترامب، أظهرت توافقاً كبيراً في وجهات النظر مع تركيا بخصوص طريقة حل الأزمة السورية. ويستند الكاتب التركي طه داغلي إلى ما قاله مايك بنس الذي سيتولى منصب نائب الرئيس الأميركي الجديد، حول «ضرورة إنشاء مناطق حظر للطيران في سورية، الأمر الذي تدعو له تركيا منذ بدء الأزمة السورية قبل قرابة 6 سنوات». ويستند آخرون إلى تصريح بوب كوركر المرشح لتولي منصب رفيع في حكومة ترامب المنتظرة، قال فيه: «كان علينا العمل بتوصيات تركيا، فلو أخذنا تلك التوصيات في الاعتبار وعملنا بها، لكنّا أنشأنا منطقة حظر طيران في حلب، ولما كانت الأمور وصلت إلى ما هي عليه الآن». غير أن هذه التصريحات الانتخابية لها ما يناقضها، وقد لا تترجم إلى مواقف سياسية بعد تسلم ترامب منصب الرئاسة، لكنها تعطي بعض الملامح للتوجهات السياسية العامة، التي كثيراً ما تتغير لأسباب عديدة. لكن مسارعة القادة الأتراك إلى مباركة فوز ترامب بالانتخابات الأميركية، تعكس رغبتهم وحاجتهم إلى بناء علاقات قوية مع الإدارة الأميركية الجديدة بالتزامن مع رغبتهم في توطيد العلاقات والتفاهمات مع روسيا. وتتحدث وسائل الإعلام التركية الموالية للحكومة التركية عن تفاهمات مع روسيا بخصوص منع حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي من إقامة كيان متصل جغرافياً في شمال سورية، في إطار ما يقال عن الحفاظ على وحدة البلاد. وهو أمر لا يمكن أن يكون معزولاً عن تفاهمات أخرى توصلت إليها تركيا مع الطرف الأميركي. ويبدو أن تفاهمات تركية أميركية حول العملية العسكرية التركية في سوريا، تمخضت عنها محادثات بين القيادة العسكرية التركية ونظيرتها في الولايات المتحدة الأميركية، خلال اجتماعات أنقرة أخيراً بين رئيس هيئة الأركان التركي خلوصي أكار، ونظيره الأميركي جوزف دانفورد، وتناولت التنسيق مع قوات التحالف الدولي ضد «داعش» وحدود عملية «درع الفرات»، ودور تركيا في معركة الرقة، حيث يجادل الأتراك بأنهم حصلوا على ضمانات أميركية لإكمال عملية «درع الفرات»، بما يعني دخول الجيش السوري الحر إلى منبج، وتراجع مقاتلي الحزب الديموقراطي الكردي إلى مناطق شرق نهر الفرات. لكن الأهم هو أن التفاهمات مع كل من موسكو وواشنطن على ملفات إقليمية قد لا تأخذ كلها طريقها إلى التنفيذ خاصة في ما يخص المنطقة الآمنة التي تعول عليها تركيا لتشكيل حزام أمني لها، ولإيواء ملايين اللاجئين السورين، وقد يفضي الرهان على تنفيذها إلى حصول تطوّرات مهمة في الأزمة السورية في الأشهر الستة المقبلة، كما قال رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم، بوصفها مفاجأة محتملة، لا تشير المعطيات الحالية إلى إمكان تحققها. * كاتب سوري مقيم في تركيا
مشاركة :