يرى د. حسن عطية أستاذ الدراما ونظريات النقد بأكاديمية الفنون أن الدراما المرئية تقوم على مبدأ إعادة صياغة الفعل الواقعي ماضيا كان أم آنيا، في بناء جمالي يتأسس داخل السياق الاجتماعي القائم ويستهدف التأثير في المجتمع الحي. وأن تقليب المبدع صفحات التاريخ بحثا عن الفعل الذي أثر يوما في الزمن الماضي وغير من مصائر شخصياته ولعب دوره الإيجابي والسلبي في مجتمعه، ليس أبدا يهدف بعثه لذاته وتقديمه كأيقونة متحفية تؤكد وقوعه في زمن ما، يحدث هذا في مجال الآثار لكنه لا يحدث مطلقا في حقل الدراما، الذي لا يعرف المتحفية ولا تثبيت الفعل في صفحة زمانه. ولا يعتقد في ذات الوقت بتكرارية التاريخ لأحداثه، بقدر ما يدرك أن فعل الأمس قد يتشابه مع فعل اليوم، لهذا يتناوله المبدع كتكئة للنظر في الفعل الآني والذي تظهر على أرض الواقع مقدماته دون نتائجه بعلاقتها المنطقية بها مما يمنح المتلقي فرصة التنبؤ في الزمن القادم، فيعمل على تغيير مسار الحدث الواقعي ما يجعل المستقبل قبض يديه، لا زمن قادم بنتائج الأفعال دونما إرادة منه وبالتالي يعمل على دفعه لتغيير واقعه. ويشير في كتابه "الدراما التليفزيونية.. تحضير التاريخ .. تأريخ الحاضر" إلى أن الدراما في تصديها لأفعال البشر في الماضي البعيد أو القريب وإعادة صياغتها جماليا تعمل على تحضير التاريخ أمام متلقي اليوم، أي أننا نرى التاريخ حاضرا أمامنا، وكأنه يحدث اليوم، فنرى الملك فاروق والملكة نازلي ومصطفى النحاس يتحاورون أمامنا في مسلسل "الملك فاروق" وكأنهم يتكلمون عن موضوعات نعيشها بالفعل، وهو ما جعل البعض يرى في المسلسل حديثا عن الديمقراطية التي يتمنى أن تكون حقيقية في حياتنا اليوم، ويشير إلى الشوارع النظيفة على الشاشة على أمل أن تكون شوارع اليوم مثلها، دون أن ينتبه إلى أن الفن لا ينقل الواقع كما هو، بل يصوغه وفقا لرؤية صناع الدراما. ومن زاوية أخرى يؤكد د. حسن عطية أن الدراما تعمل على تأريخ الحاضر لمتلق قادم، فترصد صراع رجال الأعمال وطموحات الصاعدين وغرق العبارات وموت الشباب على السواحل الأوروبية، وفي كلتا الحالتين ـ تحضير التاريخ وتأريخ الحاضر ـ تعمل الدراما على توثيق الفعل أو الأفعال التي تتصدى لرصدها وتمثيلها. ويلفت إلى أن العمل الدرامي يقدم عملا خاصا بصاحبه معلوم الهوية لا نصا مقدسا يطرد صاحبه من جنات الخلد إذا ما قدم هذا الفعل الماضي أو الحاضر ملونا برؤيته الخاصة، أو مفسرا وفقا لأيديولوجيته المؤمن بها أو مقللا لحجم وفاعلية أشخاص نتصور أن غيابها ناتج عن جهل مبدعها أو لحاجة في نفس يعقوب. والجدل الذي ثار حول مسلسل "الملك فاروق" أظهر الخلاف حول شخصية آخر ملوك مصر والسودان، أكثر ما دار حول بناء العمل الدرامي وتماسكه الفني، بل بدا أمر هذا المسلسل أشبه بما هو معروف في علم النفس باختيار رورشاخ الذي تلقى فيه بقعة من الخبر على ورقة مسطحة تطوى، ثم تعرض مفتوحة أمام أعين البشر، فيسقط كل واحد من الرائين ما بداخله، ويرى بقعة الحبر وكأنها تمثل ما يود أن تمثله أو ما يتصور أنها تمثله، فالكارهون لثورة 23 يوليو 1952 رأوا فيه تمجيدا للزمن الأفضل الذي اغتاله العسكر وتمنوا عودته. والغاضبون على الزمن الحالي رأوا فيه نظاما يودون تحقيقه اليوم دون عودة إطاره القديم، بينما انخدع بعض ثالث بما روج حوله بأنه تصحيح لما تم تزييفه في كتب التاريخ، واجهه بعض رابع معتبرا أن ما جاء به هو التزييف بعينه لهذا التاريخ. ويقول د. حسن عطية إن التأريخ ليست مهمة الدراما، بل مهمتها بناء عمل فني ممتع للوجدان ومثير للوعي كي يدرك واقعه جيدا ولهذا نتساءل دوما عن غياب الدراما التاريخية والدينية من على شاشة قنواتنا، لأننا اعتدنا بالفعل أن تكون هذه الدراما حاضرة على المائدة الرمضانية، وكأن للتاريخ والدين مواسم خاصة، فضلا عن خلط البعض بين الدراما التاريخية والدراما الدينية واعتبار الأولى هي التي تتعرض لكل حقب التاريخ، بينما الثانية هي التي تدور حول مرحلة صدر الإسلام أو التي تتعرض لمراحل ظهور الأديان السماوية فقط، والتي تعرض دائما في الأعياد الدينية غافلا عن أن الأولى ـ التاريخية ـ هي التي تتعرض للنسبي من الأحداث بينما الثانية ـ الدينية ـ مهمتها عرض المطلق من القيم، وبالتالي ليست بحاجة أن تبث من خلال الدراما التاريخية فقط، بل لا بد وأن تكون في جوهر الدراما الواقعية والفنتازية أيضا. ويرى أن الانتاج الدرامي التليفزيوني حصر التاريخ نفسه في مسلسلات تهتم بالحقبة الأولى في التاريخ الإسلامي، وتبث في شهر رمضان وقبيل صلاة الفجر، مضغوطة في موضوعات تكاد تكون متشابهة وناطقة بالعربية الفصحى بمفردات مهجورة وأسماء هاربة من الزمن الراهن وعبارات صارت سخرية ممثلي الكوميديا. ويحلل د. حسن عطية عددا من المسلسلات التي تحضر التاريخ سواء كانت سيرا لحياة شخصيات أو تناولا لوقائع وأحداث حقبة تاريخية بعينها مثل "الإمام الغزالي"، و"شيخ العرب همام" و"السائرون نياما" و"علي مبارك" و"سقوط الخلافة" و"المصراوية" و"الجماعة"، و"ملكة في المنفى" و"سرايا عابدين" و"أسمهان" و"أم كلثوم" و"الأيام" وغيرها. ويلفت أثناء تحليله لمسلسل "سقوط الخلافة" الذي عرض عام 2010 أن استدعاء السلطان العثماني في لحظة شديدة التعقيد يبدو معها المسلسل وكأنه يناصر أفكار العثمانيين الجدد في تركيا المرتدين لانتمائهم القبلي، والمنادين بعودة الخلافة العثمانية بعد رفض أوروبا لالتحاقها بركب الاتحاد الأوروبي، توجها منهم نحو الممالك القديمة فيما يدعى بالشرق الأوسط أملا في استعادة مجد الأيام الخوالي، وانتهازا لتيار سياسي في هذا الشرق الأوسطي يأمل في عودة أزمنة الملكية في أردية الجمهوريات التي فقدت جوهرها، وتيار فكري محافظ سائد في المجتمع العربي اليوم ينبذ الوطنية الإقليمية والقومية العربية، ويدعو للأممية الإسلامية مقابل العولمية الأميركية. وتغزو اليوم شاشات التليفزيونات العربية المسلسلات التركية منافسة بقوة المسلسلات العربية في التأثير على عقل ووجدان المتلقي. ويضيف "كما تلعب الدراما التلفزيونية المصرية والمنتج بعضها بأموال عربية دورها في الترويج لعصر الملكية المصرية، مثل مسلسل "الملك فاروق" 2007 وأمه "نازلي" في "ملكة في المنفى" 2010، وجده الخديوي إسماعيل "سرايا عابدين" 2014 مخفيا ما في الأعماق من سعي لعودة تركيا للهيمنة على العالم العربي والعالم الإسلامي، خاصة الأول الذي انسلخ عنها في عصر النهضة العربي، وتمهيدا لدورها الجديد مع قطر التي قامت شركتها "إيكوميديا" بإنتاج مسلسل "سقوط الخلافة" ونفذ الانتاج العراقي محسن العلي وأخرجه السوري محمد عزيزية وعرض على الشاشات العربية ومنها مصر، قبل أشهر قليلة من تفجر ثورات ميادين التحرير العربية في تونس ومصر وليبيا، بغض النظر مؤقتا عما آلت إليه هذه الثورات الشعبية". في الاتجاه المقبل لدراسته للدراما التي تقوم بصياغة التاريخ في بنية درامية حاضرة "تحضير التاريخ"، يدرس د. حسن عطية في كتابه اتجاه توثيق الحاضر في بنية درامية حاضرة تشكل وثيقة دالة على حال مجتمعها زمن كتابة وبث المسلسل الدرامي "تأريخ الواقع"، فيحلل مسسلات مثل "أهل كايرو" و"الدالي" و"العنكبوت" و"الرحايا" و"الفنار" و"صرخة أنثى" و"سلطان الغرام" و"حق مشروع" و"أولاد الليل" و"قلب امرأة" و"عفريت القرش" و"حدائق الشيطان". ويرى أنه إذا أحسنا الظن في الدراما التليفزيونية وكتابها فسوف نرى أن ثمة هما عاما يشغل هذه الدراما خلال السنوات السابقة يتمثل في جنون الثروة وحلم الصعود من القاع إلى القمة بأي وسيلة مما يجعل أجواء المسلسلات تنقسم في أغلبها إلى قسمين لا ثالث لهما، هما: أجواء الحارة الشعبية الفقيرة وبيوتها النمطية ذات المعمار الإسلامي، والتي لم تعد موجودة بالصورة، التي تقدمها الدراما التليفزيونية في حيها الشعبي، والذي صار يدل نمطيا على الأصالة جنبا إلى جنب الوسط متواضع الثراء، وأجواء الحي الراقي بقصوره وفيلاته وسياراته الفارهة على ثراء طبقة تعيش حياة منقطعة الصلة بحياة أبناء الناس في بقية أرجاء المجتمع. ويقول "أما إذا أسأنا الظن وإساءة الظن نقديا ليست إثما، فسوف نرى أن ما يحدث ليس تعبيرا عن هم عام يشغل كتابنا، بقدر ما هو نضوب في الفكر، وتقاعس عن طرح القضايا والموضوعات الجديدة، وخضوع لصياغة تم تنميطها فصارت هي البناء الفني الوحيد الظاهر على شاشات التليفزيون، شارك الكتاب باستسهال الكتابة على منوالها، وشارك النجوم في استمرارها برغبتهم الدائمة في الظهور أمام الجمهور بأزياء وماكياجات مختلفة تمنحها لهم عملية الانتقال من بيئة إلى بيئة مخالفة، وتتيح للثلاثين حلقة فرصة التنقل بين ديكورات متعددة. كما تجسد لدى الفقراء حلم مدينة الثراء المبهرة وتحقق لهم هاجس العدالة المفقودة على الأرض، للقصاص ممن سرق قوتهم واغتنى على حساب فقرهم، ولا يقف الأمر عند تكرار الموضوعات والأفكار بل تتكرر المواقف مثل اكتشاف زواج الرجل من أخرى عقب إطلاق الرصاص عليه، أو وقوع فتاة الطريق البدوية الشابة في هوى سائق التاكسي أو الشاحنة الأكبر منها سنا، وتتكرر الأمكنة فيظهر البازار في أكثر من مسلسل وتتكرر الجمل فنسمع عبارة "أنا مش مهم حياتي، إنما المهم حياة بنتي" أو أولادي". وسواء أحسنا أو أسأنا الظن فالنتيجة واحدة وهي أن الدراما التليفزيونية مازالت تدور في فلك حلم الحصول على المال والصعود اجتماعيا وإن تباينت مستوياتها. محمد الحمامصي
مشاركة :